{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} [سورة لقمان: 12]
تفسير ابن كثير :
اختلف السلف في لقمان عليه السلام هل كان نبيًا أو عبًدا صالحًا من غير نبوة ؟ على قولين الأكثرون على الثاني، وقال سفيان الثوري عن الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدًا حبشيا نجارًا، وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير، قلت لجابر بن عبد الله : ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال : كان قصيرًا أفطس من النوبة، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال : كان لقمان من سودان مصر، ذا مشافر أي ” شفاه غليظة “، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة.
وقال الأوزاعي رحمه الله : حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله، فقال له سعيد بن المسيب : لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال ، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، ولقمان الحكيم، كان أسودا نوبيا ذا مشافر، وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد : كان لقمان عبدًا صالحًا ولم يكن نبيا، وقال الأعمش : قال مجاهد : كان لقمان عبدًا أسود عظيم الشفتين، مشفق القدمين.
وذكر غيره : أنه كان قاضيًا على بني إسرائيل في زمن داود عليه السلام، وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم، حدثنا عمرو بن قيس قال : كان لقمان عليه السلام، عبدًا أسود غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال له : ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا، قال : نعم، فقال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني.
فهذه الآثار منها ما هو مصرح فيه بنفي کونه نبيًا، ومنها ما هو مشعر بذلك، لأن كونه عبدًا قد مسه الرق ينافي کونه نبيًا؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها، ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا، وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عبد الله بن عياش القتباني، عن عمر مولی غفرة قال : وقف رجل على لقمان الحكيم فقال : أنت لقمان؟ أنت عبد بني الحسحاس ؟ قال : نعم، قال : أنت راعي الغنم ؟ قال : نعم، قال : أنت الأسود ؟ قال : أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمرى ؟ قال : وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك. قال : يا ابن أخي، إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك قال لقمان : غضي بصري، وكفي لساني، وعفة طعمتي، وحفظي فرجي، وقولي بصدق، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، و تركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيرني إلى ما ترى.
وذكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال يومًا – وذكر لقمان الحكيم – فقال : ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال، ولا حسب ولا خصال، ولكنه كان رجلاً صمصامة سكيتًا، طویل التفكر عميق النظر، لم ينم نهارًا قط، ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخع، ولا يبول ولا يتغوط، ولا يغتسل، ولا يعبث ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقًا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد، وكان قد تزوج وولد له أولاد، فماتوا فلم يبك عليهم، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام، لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي.
وقد ورد أثر غريب عن قتادة ، رواه ابن أبي حاتم ، فقال : عن قتادة قال : خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة على النبوة، قال : فأتاه جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة أو رش عليه الحكمة، قال : فأصبح ينطق بها، وقال سعيد : فسمعت عن قتادة يقول : قيل للقمان : كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك ؟ فقال : إنه لو أرسل إلى بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه ولكنت أرجو أن أقوم بها، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلى فهذا من رواية سعيد بن بشير، وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه، فالله أعلم .
والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } أي : الفقه في الإسلام، ولم يكن نبيًا ولم يوح إليه، وقوله : { وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } أي : الفهم والعلم والتعبير، و{ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ } أي : أمرناه أن يشكر الله عز وجل، على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل، الذي خصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه، ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي : إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله تعالى : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [سورة الروم: 44]، وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن العباد لا يتضرر بذلك، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعًا، فإنه الغني عما سواه ؛ فلا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه.