قال الله تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الأحقاف: 26-27]
تفسير الآية
القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ } يقول تعالى ذكره لكفار قريش: ولقد مكنا أيها القوم عادًا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها الذي لم نعطكم منهم من كثرة الأموال، وبسطة الأجسام، وشدة الأبدان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ } يقول: لم نمكنكم، وعن قتادة، قال: المعنى أنبأكم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم.
وقوله: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا } يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصارا يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم وينفعهم يقول: فلم ينفعهم ما أعطاهم من السمع والبصر والفؤاد إذ لم يستعملوها فيما أعطوها له، ولم يعملوها فيما ينجيهم من عقاب الله، ولكنهم استعملوها فيما يقربهم من سخطه، يقول: إذ كانوا يكذبون بحجج الله وهم رسله، وينكرون نبوتهم.
يقول: وعاد عليهم ما استهزءوا به، ونزل بهم ما سخروا به، فاستعجلوا به من العذاب، وهذا وعيد من الله جل ثناؤه لقريش، يقول لهم: فاحذروا أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله وتكذيبكم رسله، ما حل بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } يعني قلوبًا يفقهون بها. { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ } ما أغنت عنهم من عذاب الله. { إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ } يكفرون { بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ } أحاط بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }، أي وحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه، أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلكُمْ مِنْ الْقُرَى } يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. { وَصَرَّفْنَا الْآيَات } يعني الحجج والدلالات وأنواع البينات والعظات، أي بيناها لأهل تلك القرى. { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فلم يرجعوا. وقيل: أي صرفنا آيات القرآن في الوعد والوعيد والقصص والإعجاز لعل هؤلاء المشركين يرجعون.
وقيل { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلكُمْ مِنْ الْقُرَى } يقول تعالى ذكره لكفار قريش محذرهم بأسه وسطوته، أن يحل بهم على كفرهم { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا } أيها القوم من القرى ما حول قريتكم، كحجر ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمثلات، وخربنا ديارها، فجعلناها خاوية على عروشها . وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه، وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم، والتمادي في غيهم، فأهلكناهم، فلن ينصرهم منا ناصر.
وقوله: { وَصَرَّفْنَا الْآيَات } يقول: ووعظناهم بأنواع العظات، وذكرناهم بضروب من الذكر والحجج، وبينا لهم ذلك، وقال ابن زيد: أي بيناها، يقول ليرجعوا عما كانوا عليه مقيمين من الكفر بالله وآياته