قال الله تعالى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [سورة التوبة: 58].
سبب نزول الآية
قال قتادة: وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقسم ذهباً وفضة، فقال: يا محمد! واللّه لئن كان اللّه أمرك أن تعدل ما عدلت، فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم: « ويلك فمن الذي يعدل عليك بعدي؟ »، وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان عن أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة لما اعترض على النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قسم غنائم حنين، فقال له: اعدل، فإنك لن تعدل، فقال: « لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل»؛ ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد رآه مقفياً: « إنه يخرج من ضِئْضِيء أي من أصله ومعدنه أو من نسله هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء »، وذكر بقية الحديث.
وعن أبي سعيد، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسمًا، إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله ! فقال: « ويلك ومن يعدل إن لم أعدل ؟ » فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه ! قال: « دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قذذه فلا ينظر شيئا، ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا، ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا، قد سبق الفرث والدم، ايتهم رجل أسود إحدى يديه – أو قال: يديه – مثل ثدي المرأة – أو مثل البضعة – تدردر، يخرجون على حين فترة من الناس» . قال: فنزلت: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا رحمة الله عليه حين قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تفسير ابن كثير
يقول تعالى: { وَمِنْهُمْ } أي ومن المنافقين { مَنْ يَلْمِزُكَ } أي يعيب عليك { فِي } قسم { الصَّدَقَاتِ } إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتهمون المأبونون، ومع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم، ولهذا { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } أي يغضبون لأنفسهم، قال قتادة: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات.
تفسير القرطبي
القول في تأويل قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } يقول تعالى ذكره: ومن المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم في هذه الآيات { مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } يقول: يعيبك في أمرها ويطعن عليك فيها، { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا } يقول: ليس بهم في عيبهم إياك فيها وطعنهم عليك بسببها الدين، ولكن الغضب لأنفسهم، فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا عنك، وإن أنت لم تعطهم منهم سخطوا عليك وعابوك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } يروزك ويسألك. قال ابن جريج: وأخبرني داود بن أبي عاصم، قال: قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة، فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت، قال: وراه رجل من الأنصار، فقال: ما هذا بالعدل ! فنزلت هذه الآية، وعن قتادة، قال: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات .
وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بأعرابيًا، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة، فقال: يا محمد، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت ! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: « ويلك فمن ذا يعدل عليك بعدي ؟ » ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: « احذروا هذا وأشباهه، فإن في أمتي أشباه هذا يقرءون القران لا يجاوز تراقيهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم » . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن ».
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } قال: هؤلاء المنافقون، قالوا: والله ما يعطيها محمد إلا من أحب، ولا يؤثر بها إلا هواه ! فأخبر الله نبيه، وأخبرهم أنه إنما جاءت من الله، وأن هذا أمر من الله ليس من محمد: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } [التوبة:60].