لقد توالت الأحداث العظيمة والآيات الربانية قبل البعثة النبوية، وكان من أهم الأحداث التي سبقت ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، حادثة تعرضت لها الكعبة المشرفة قص الله نبأها وسجل وقائعها في القرآن الكريم، فما خبر هذه الحادثة ؟ :
ذكرت كُتب السيرة أن أبرهة الحبشي كان نائباً للنجاشي على اليمن، فرأى العرب يحجون إلى الكعبة ويعظمونها، فلم يرق له ذلك، وأراد أن يصرف الناس عنها،فبني كنيسة كبيرة بصنعاء ليحج الناس إليها بدلاً من الكعبة، فلما سمع بذلك رجل من بني كنانة دخل الكنيسة ليلاً، فبال وتغوط فيها، فلما علم أبرهة بذلك سأل عن الفاعل، فقيل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، فغضب أبرهة وحلف أن يذهب إلى مكة ليهدمها، فجهَّز جيشاً كبيرا، وأنطلق قاصداً البيت العتيق يريد هدمه، وكان من جملة دوابهم التي يركبون عليها الفيل- الذي لا تعرفه العرب بأرضها- فأصاب العرب خوفٌ شديد،ٌ ولم يجد أبرهة في طريقه إلا مقاومة يسيرة من بعض القبائل العربية التي تعظم البيت، أما أهل مكة فقد تحصنوا في الجبال ولم يقاوموه.
وجاء عبد المطلب يطلب إبلاً له أخذها جيش أبرهة، فقال له أبرهة : كنتَ قد أعجبتني حين رأيتُك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أخذتها منك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه ! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً يحميه، فقال أبرهة: ما كان ليمتنع مني ، قال عبد المطلب : أنت وذاك.وأنشد يقول:
لاهُمَّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبنَّ صليبهم ومحالهم غدواً محالك
إن كنتَ تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدالك
وأما قريش ففروا من أرض الحرم إلى رؤوس الجبال، يحتمون بها، ويترقبون ما الذي سيحل بأبرهة وقومه.
فلما أصبح أبرهة عبأ جيشه، وهيأَ فيله لدخول مكة ، فلما كان في وادي محسر-بين مزدلفة ومنى- برك الفيل، وامتنع عن التقدم نحو مكة، وكانوا إذا وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق انقاد لذلك، وإذا وجهوه للكعبة برك وامتنع، وبينما هم على هذه الحال، إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل -ومعنى أبابيل يتبع بعضها بعضاً- مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره وحجران في رجليه، لا تصيب منهم أحداً إلا تقطعت أعضاؤه وهلك.
أما أبرهة فقد أصابه الله بداء، تساقطت بسببه أنامله، فلم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل فرخ الحمام، وانصدع صدره عن قلبه فهلك شر هلكة. وقد أخبر الله تعالى بذلك في كتابه فقال: { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول } .
وقد حدثت هذه الواقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يوما تقريبا، وهو يوافق فبراير سنة 571م.
ووقعت في ظروف ساعدت على وصول خبرها إلى معظم أرجاء المعمورة المتحضرة في ذلك الزمن، فالحبشة كانت ذات صلة قوية بالرومان، والفرس لهم بالمرصاد يترقبون ما ينزل بهم وبحلفائهم، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر في ذلك الزمان.
فلفتت هذه الواقعة أنظار العالم إلى شرف هذا البيت ومكانته، وأنه هو البيت الذي اصطفاه الله تعالى واختاره.
يستفاد من هذه الحادثة عدد من العبر والفوائد
أولها بيان شرف الكعبة، وأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظها ورعايتها من غطرسة وتجبر أبرهة وقومه.
ويستفاد أيضا أن الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر دائم لا ينقطع، فأعداء الإسلام لا يفتؤون عن الصد عن دين الله، ومحاربة أوليائه.
وهذه الحادثة تعتبر آية ظاهرة ودلالة واضحة من دلائل النبوة، فكانت هذه الحادثة من باب التمهيد لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما انه ولد صلى الله عليه وسلم في نفس العام.
وفي هذه الحادثة عبرة لكل طاغية متكبر متجبر في كل العصور والأزمان، لذا جاء فعل تَرَ في قوله (ألم تَرَ) بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد، فكل من طغى وتجبّر، سيكون عقابه ومصيره كمصير أبرهة وجيشه.
إن قصة الفيل وإن كانت حادثة عظيمة، وشأناً كبيراً، إلا أنها رمز واضح على نصرة الله تعالى لدينه ولبيته، فإذا كان أبرهة قد أهلكه الله، فإن أتباعه في كل مكان وزمان هالكون لا محالة، والله يمهل ولا يهمل.