يوسفَان لتلك الأمّة: الأوّل هو يوسف المشرق صلاح الدّين يوسف بن أيوب صاحب القدس، والثّاني هو يوسف المغرب يوسف بن تاشفين صاحب الأندلس الذي أرسى فيها وفي أرض المغرب كلمة الحقّ والدّين.

وُلِد أبو يعقوب يوسف بن تشوفين في قبيلةٍ حكّمت سطوتها على صنهاجة، فاخضرّ جناحه عزيزًا مكرّمًا في القوم. تلقّن علمه من ألسنة العلماء والمُحدّثين على مذهب وتعاليم الفقيه العالِم ابن ياسين.  وتميّز يوسف في أعمال رجال الحرب والسياسة الشرعيّة.

تولّي يوسف بن تاشفين الإمارة: عُرِفت حنكته الحربيّة والسياسيّة البارعة في معركة الواحات حيث تقدّم جيش المُرابطين. وبعدها عُيّن واليًا على مدينة سجلماسة، فأظهر من البراعة ما أظهر إداريًّا وتنظيميًّا، ثم امدّ جيوشه غازيًا بلاد جَزولة وفتح ماسة وتارودانت حيث قتلَ المرابطون شيعة هذه البلاد وتحوّل النّاجون منهم إلى السُّنيّة.

ثم تحرَّك إلى أغمات المدينة النّصرانيّة ومقرّ اليهود البربر ودخلها المرابطون وأوسعوها دكًّا. ثم ساروا إلى برغواطة، وهناك تُوفّي ابن ياسين متأثّرًا بجراحه البالغة، ومن هنا كانت دفعةُ يوسف لتولّي الرّئاسة لما رُؤَيَ منه من حُسن التخطيط والضبط العسكري والحركيّ والحزم القياديّ والإنصاف، وذلك بعد تنازل ابن عمّه الأمير أبو بكر له عنها على أعين وشهادة شيوخ المرابطين وكتّابها وشهودها.. قائلًا:

“يا يوسف، إنِّي قد ولَّيتُك هذا الأمر وإنِّي مسئول عنه؛ فاتقِ الله في المسلمين وأعتقني وأعتق نفسك من النار، ولا تُضيِّع من أمر رعيتك شيئًا؛ فإنَّك مسئول عنهم، والله تعالى يصلحُك ويمدّك ويوفقك للعمل الصّالح والعدلَ في رعيّتك”.

إمارة المُرابطين: كانت أول وجهات يوسف بن تشفين أميرًا وقائدًا للمرابطين هي للمغرب الشماليّ مُرسلًا في ذلك الجيوش الكرّارة لدكّ جيوش أعدائهم وأعانه على ذلك الشجارات السياسيّة فيما بين قادات المُدن، فتحالف البعض على قتل البعض الآخر. وبذلك وطأ “فاس”. لكن أهلها تمرّدوا عليه، فأطفأ ثوراتهم بجهاده المتواصل حتى أتمّ فتح الأرض كلها من الرّيف إلى طنجة وذلك في عام 460 هجريًّا.

وهناك نظمَ المساجد والأسواقَ والمرافق والبيوت. وبعدها تحرّك فاتحًا إلى بلاد ملوى ودخلها.

توحيد المغرب:
غزا يوسف طنجة وفتح جبل علودان، وتمكّن من جبل غيّاثة وبني مكود ويني رهينة وفصَل بينه وبين زناتة من نّاحية الشّرق.

تمكّن يوسف من حكم قبضة دولة المرابطين وإقصاء كلّ من عمل فيها العصيان والخراب حتّى سكنت فيه الدّولة وأهلها ولم يبق هناك من توّاقٍ للثّورة عليه.

ولكن لازالت منطقة “تازا” فيصلًا بينه وبين زناتة، فقد بسطَ يديه على كل المغرب الأقصى إلّا طنجة وسبتة. لذلك مدّ يوسف جيشه ذا الاثني وثلاثين فارسًا إلى طنجة وقاتلوا فيها قتالًا عظيمًا قُتل فيه حاجبُ طنجة. ومن بعد طنجة، سار لزناتة وكُسِرت هنالك شوكتها وقُتل أميرها، وبعدها مضى للرّيف وضمّ له مدينة تكرور.

ثم عاد بجيشه ودخل مدينة الجزائر، وبنى جامعًا يُسمّى حتّى اليوم بالجامع الكبير. بعدها أرسل يوسف ابنه “المُعزّ” إلى سبتة المتبقية وغزاها بحرًا وبرًّا ودارت طاحونة الحرب واستقرّت الكفّة لصالح المرابطين، وبذلك توحّد المغرب الأقصى كلّه بعد جهاد دام ثلاثين عامًا.

يوسف والأندلس وملوك الطّوائف:
وبتلك القوّة التي أرستها دولة المرابطين في المغرب الأقصى، صارت هي ملاذ وحصن المسلمين في الأندلس التي تشرذم سلطانها بين الملوك يتناحرون فيما بينهم وصلت أعداد الدويلات فيها إلى 23 دويلة.

استغلّ الملك الصليبيّ ألفونسو السادس هذا الشِقاق، فأوسع المسلمين جورًا وسيفًا، حتّى بلغ الأمر أن يبعث المسلمون إليه الجزية كلّ عام. حتى استحال على المسلمين الصّبر على ظلمه فقتل الملك المُعتمد رسل ألفونسو الحاضرة لتحصيل الجزية، فخطّط ألفونوس إثر ذلك على كسر شوكة المعتمد وملوك الطّوائف أجمعين من خلفه.

أرسل ألفونسو الصليبيّ بكتابٍ إلى يوسف بن تشفين ممعنًا في الاستخفاف، قال فيه: فإن كنت لا تستطيعُ الجوازَ إلينا، فابعث إليَّ ما عندك من المراكبِ نجوزَ نحن إليك. أناظرك في أحبّ البقاعِ إليك، فإن أنت غلبتني فتلك نعمةٌ جُلبت إليك، وإن أنا غلبتُك كانت لي اليدُ العُليا عليك، واستكملت الإمارة، والربّ يتمّ الإرادة.

فبعث يوسف بالردّ على ظهر الكتاب: ” الجواب ما ترى لا ما تَسمع “.

انتصار يوسف بن تشفين لملوك الأندلس:
بعث الملك المعتمد إلى يوسف بن تشفين يستنصره أمام العدوّ الصليبيّ ألفونسو، وحينها ثار علماء المرابطين وأهلها لمصاب إخوانهم في الدّين، واجمعوا على النّصرة.

تحرّكت جيوش المسلمين إلى الأندلس، وانزعج لذلك ألفونسو أيّما انزعاج فقد شعر بروح أهل الأندلس تعودُ إليهم وقد كان هو من قبل ذلك يعمل فيها القتل والسّبي والازدراء وقد كان يرسمُ لنزع المسلمين أجمعين من الأندلس لتحكم بعدها النصرانيّة.

لما وصل يوسف إلى الأندلس، بعث إلى ألفونسو كتابًا يعرض عليه الإسلام أو الجزية أو الحرب بلهجةٍ قاسية. فثارت ثورة ألفونسو وقال: أبمثل ذلك الحديث يخاطبني وأنا وأبي نغرم أهل ملّته الجزية منذ 80 عامًا؟”، وقال لرسول يوسف : “قل للأمير لا تُتعب نفسك، أنا أصلُ إليك “

موقعة الزّلاقة: أرسل ألفونسو إلى يوسف بن تشفين ماكرًا عليه يبلغه أن الغد الجمعة يوم المسلمين ونحن لا نقاتل في أيام أعيادهم، وبعده السّبت عيد اليهود وهم كثرٌ في جيش ألفونسو، وبعده الأحد عيدنا، على أن يُرجأ النزال حتى الاثنين.

لكن تلك الخدعة لم تنطل على عقل يوسف بن تشفين الحنِك، فقد علم أنها مخدعةٌ من مخادعه، فلم يُبلغ جيشه بأمر كتاب ألفونسو. وبعد صلاة الجُمعة، هجمَ ألفونسو على جيوش المسلمين الذين كانوا على أتمّ استعدادٍ لهم، فلم تكن المفاجأةُ حينئذٍ ليوسف بن تشفين، بل لألفونسو الذي توقّع أن يبتلع يوسف طعمَه.

قسّم يوسف بن تشفين الجيش كما قسّمه خالد بن الوليد والنّعمان بن المقرن من قبله. فجعل أوّل الجيش 15 ألف مقاتل يقودهم المعتمد، والثّانية 11 مقاتل يقودهم هو نفسه، وفي الخلف فئةٌ بها 3 آلاف رامٍ ومحارب.

أبلغ جيش المُسلمين في جيش الصليبين القتل والطّعن والأسر، وسُمّيت تلك المعركة بمعركة الزلّاقة لأن الخيول كانت تنزلق على الصّخور من وفرة دماء الصّليبين عليها.

وفرّ ألفونسو الذي فقد إحدى ساقيه بـ500 فارس ناجٍ فقط من أصل 80 ألف فارس و200 ألف راجل أوردهم الحتف والمصرع. واحتمى بأحد الجبال حيث فقد هنالك 400 من الـ 500 فارس المتبقيين، ودخل طُليطلة بمائة فارس فقط.

موته:
تُوفّي يوسف بن تشفين في أول محرم عام 500 هجريًا وقد بلغ من العمر مائة عام. قرنٌ كامل من الزّمان بلغت في الأندلس والمغرب الأقصى أوج عظمتها وعزّتها تاركًا فيهم حكمًا لا يترك للظالمين شوكة.