قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام: 151-153]
فضل الآيات في تفسير بن كثير:
وقال الحاكم في مستدركه عن عبد اللّه بن خليفة قال: سمعت ابن عباس يقول: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: «أيكم يبايعني على ثلاث» ثم تلا رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى فرغ من الآيات.. «فمن أوفى فأجره على اللّه ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه اللّه به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى اللّه إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه»
تفسير الآية:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صل اللّه عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير اللّه وحرموا ما رزقهم اللّه وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم {قُلْ} لهم {تَعَالَوْا} أي هلموا وأقبلوا {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه وأمراً من عنده.
{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}: وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق وتقديره: وأوصاكم {ألا تشركوا به شيئاً} ولهذا قال في آخر الآية: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: «أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك باللّه شيئاً من أمتك دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وإن شرب الخمر»؛ وفي بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة: «وإن رغم أنف أبي ذر»، فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث: «وإن رغم أنف أبي ذر» وعن عبادة بن الصامت قال: أوصانا رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم بسبع خصال: «ألا تشركوا باللّه شيئاً وإن حرقتم وقطعتم وصلّبتم»
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}: أي أوصاكم وأمركم بالوالدين إحساناً أي أن تحسنوا إليهم، كما قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]} ، واللّه تعالى كثيراً ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال: سألت رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أيّ؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أيّ؟ قال: «الجهاد في سبيل اللّه»، قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولو استزدته لزادني.
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}: لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد اللّه ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه سأل رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم : «أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل للّه نداً وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، ثم تلا رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]»
{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}: عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: «لا أحد أغير من اللّه من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» وفي الصحيحين قال سعد بن عبادة لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد؟ فواللّه لأنا أغير من سعد، واللّه أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن»
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ}: وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيداً وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، وفي لفظ لمسلم: «والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم» وعن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم، ورجل قتل متعمداً فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام وحارب اللّه ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض»
وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد وهو المستأمن من أهل الحرب، فروى البخاري عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما عن النبي صل اللّه عليه وسلم مرفوعاً: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً» وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صل اللّه عليه وسلم قال: «من قتل معاهداً له ذمة اللّه وذمة رسوله فقد أخفر بذمة اللّه فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً) {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن اللّه وأمره ونهيه.