قال الله تعالى: {َالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، تفسير الآية مع بيان حكم نساء أهل الكتاب مع ذكر اختلاف العلماء فيه وذلك من تفسير سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز للآية من سورة المائدة.
تفسير الآية:
قال الله تعالى: {َالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} أي أنه أحل لكم نكاح الحرائر والعفائف من نساء المؤمنات وذكر هذا؛ توطئة لما بعده وهو {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، فقيل أراد المحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد: المحصنات: الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة، والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنا كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25].
تفسير والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم:
يوضح لنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز أن المفسرون والعلماء اختلفوا في قوله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل: المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل: المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [التوبة:29].
وقد كان عبدالله ابن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول: «لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول: إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221]، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب: حدثنا القاسم بن مالك: حدثنا إسماعيل بن سميع، عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، فنكح الناس نساء من أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى، ولم يروا بذلك بأسا.
هل يوجد تعارض بين الآيتين ؟
من كلام الحافظ بن كثير: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} و{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها فهي مخصصة، وإلا فلا يوجد تعارض بين الآيتين لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في أكثر من موضع، قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1]، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران:20]، وعلى هذا لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين أي تعارض.
وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند إطلاق رجالهم ونسائهم، لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يمنعون من دخول المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة؛ حيث قال بعد ذلك: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] فوصفهم جميعًا بالشرك.
حكم نكاح نساء أهل الكتاب:
يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل.