قال الله تعالى {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)} [سورة الدخان: 28-29]

تفسير الآية ابن كثير

وقال عزَّ وجلَّ ههنا: { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ } وهم بنو إسرائيل كما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا اللّه تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم، روى الحافظ الموصلي، عن أَنَس بن مالك رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: « ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه » وتلا هذه الآية: { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ }  [أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ]

ورواه ابن أبي حاتم أيضاً بنحوه وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم، ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم، وروى ابن أبي حاتم، عن عباد بن عبد اللّه قال: سأل رجل علياً رضي اللّه عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء، ثم قرأ علي رضي اللّه عنه: { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } .

وقال ابن جرير، عن سعيد بن جبير قال: أتى ابنَ عباس رضي اللّه عنهما فقال: يا أبا العباس، أرأيت قول اللّه تعالى { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي اللّه عنه: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر اللّه عزَّ وجلَّ فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يصعد إلى اللّه عزَّ وجلَّ منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض [أخرجه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً].

وقال سفيان الثوري: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً، وقال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فقلت له: أتبكي الأرض؟ فقال: أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل، وقال قتادة: كانوا أهون على اللّه عزَّ وجلَّ من أن تبكي عليهم السماء والأرض.

تفسير القرطبي

قوله تعالى: { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } أي لكفرهم. { وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء والأرض؛ أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وقيل : في الكلام إضمار، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة؛ كقوله تعالى: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف : 82] بل سروا بهلاكهم، قاله الحسن.

وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه – ثم تلا – { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } » . يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك. وقال مجاهد : إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحًا. قال أبو يحيى : فعجبت من قوله فقال : أتعجب ! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل !.

وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما : إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد. وقال شريح الحضرمي قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة قيل : من هم يا رسول الله؟ قال – هم الذين إذا فسد الناس صلحوا – ثم قال – ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض – ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم – { { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } } ثم قال : ألا إنهما لا يبكيان على الكافر ».

وعن عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت. وقيل: بكاؤهما حمرة أطرافهما، قال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء؛ وبكاؤها حمرتها. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها.

وقال محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما. وقال سليمان القاضي: مطرنا دًما يوم قتل الحسين. قلت: روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « الشفق الحمرة ». وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا: الشفق شفقان : الحمرة والبياض؛ فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة.

وقال محمد بن علي الترمذي : البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت؛ لأن المؤمن نور ومعه نور الله؛ فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك، فإن فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت باغبرارها؛ لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك، وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن؛ فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها.

وقال أنس : لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء كل شيء، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا. وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن. وقال نصر بن عاصم : إن أول الآيات حمرة تظهر، وإنما ذلك لدنو الساعة، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين. وقيل: بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن. قلت : والقول الأول أظهر؛ إذ لا استحالة في ذلك. وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم كما بيناه في الإسراء ومريم وحم فصلت فكذلك تبكي، مع ما جاء من الخبر في ذلك والله أعلم بصواب هذه الأقوال.

الوسوم
تفسير الايات