قال الله تعالى { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [سورة الدخان: 9-11].
سبب نزول الآية
قال مسروق: دخلنا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فإذا رجل يقص على أصحابه { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود رضي اللّه عنه فذكرنا ذلك له، وكان مضطجعاً ففزع منه فقعد، وقال: إن اللّه عزَّ وجلَّ قال لنبيكم صلى اللّه عليه وسلم: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص:86]، إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: اللّه أعلم، سأحدثكم عن ذلك:
إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء، فلا يرون إلا الدخان، وفي رواية: فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، قال اللّه تعالى: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيم ٌ}.
فَأُتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقيل: يا رسول اللّه، استسق اللّه لمضر، فإنها قد هلكت، فاستسقى صلى اللّه عليه وسلم لهم، فسقوا، فنزلت: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15] قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] قال: يعني يوم بدر، قال ابن مسعود رضي اللّه عنه، فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام [الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه أحمد والترمذي والنسائي].
تفسير الآيات ابن كثير
قول تعالى: { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين، وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به، ثم قال عزَّ وجلَّ متوعداً لهم ومهدداً: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } قيل لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي اللّه عنه قال: أشرف علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عرفة، ونحن نتذاكر الساعة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس – أو تحشر الناس – تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل حيث قالوا» [أخرجه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري].
وفي الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لابن صياد: «إني خبأت لك خبأ» قال: هو الدُّخ ـ والدَّخ: الدخان ـ فقال صلى اللّه عليه وسلم له: «إخسأ فلن تعدو قدرك» قال: وخبأ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ }. وعن أبي مالك الأشعري رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: « إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر، فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال » [أخرجه ابن جرير ورواه الطبراني، وإسناده جيد].
وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه»، وقال ابن أبي حاتم، عن علي رضي اللّه عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ، وروى ابن جرير عن عبد اللّه ابن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي اللّه عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لِمَ؟ قال، قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي اللّه عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن،
وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم أجمعين من الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن، قال اللّه تبارك وتعالى: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } أي بيِّن واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي اللّه عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: { يَغْشَى النَّاسَ } أي يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه { يَغْشَى النَّاسَ }، وقوله تعالى: { هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً كقوله عزَّ وجلَّ: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [سورة الطور: 13-14] ، أو يقول بعضهم لبعض ذلك.