يمثل الشعر الفلسطيني شعر خاص جدا لأنه دليل موثق عما يعيش فيه الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الصهيوني من سنوات طوال، ومن أبرز الشعراء الفلسطينيين الذي قد لمع نجمهم في فلسطين هو الشاعر مريد البرغوثي الذي ولد عام 1944 بقرية دير غسانة قرب رام الله في الضفة الغربية، وقد نشر ديوانه الأول عن دار العودة في بيروت في عام 1972 بعنوان الطوفان وإعادة التكوين، وله الكثير من الدواوين والقصائد، وقد حصل مريد البرغوثي على جائزة فلسطين في الشعر عام 2000 ، أما رصيده من الدواوين الشعرية فهي 12 ديوان وكتاب نثري واحد وهو سيرته الروائية بعنوان ” رأيت رام الله”، ونقدم في مقالنا أفضل قصائد الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي

المخبأ

خذ الطـائر الأزرق الريش
خذ كل أعيـادنا القـافزات إلى زركشات القرى
خذ متاحف أسـلافك الغـامضين
خذ العش والقـش خذ قلبي الهش
خذ رعشة الارتبـاك إذا ما التقى عـاشقـان،

خذ الصبية القـافزين إلى بركة النضج
خذ خجل البنت من إصبعيها
يفكان أول زر أمـام العريس الفضولي
خذ زهرة الجلنـار
خذ المرأة المستعـدة للقفز
في ماء شهـواتها الهـائجات
وخذ ثنية الركبتين
إذا حـاولت مهرة أن تطير
وخذ حلوة حننتنا بذيل الحصـان،

خذ الجامعات بأولادها والبنات
وأشجـارها الضاحكـات
خذ المكتبات التي
رتبت حيرة الـروح في حبرنا البشرى اللحوح
خذ الفلسفـات التي
هذبت كـوكب الأرض
خذ لهفة الطفـل إذ تفتح الأم
سجن القميـص
وتفرج عن جنة الثدي والرضعة المشتهاة
وخذ دهشة الكهـل من علم أحفاده
خذ غبار الطبـاشير، والدرس، واللوح
والولد الأسود الحاجبين
وحيرته بين صـرخة فخذيه والامتحـان،

خذ الشعـر والرسـم
خذ كل مـا سوف تخشى عليه من المـوت
خذ بذرة القمح خذ نطفة النخل
والعلم الشـاهق اللون
خذ بهجة العـدل والعقـل
خذها جميعا” إلى مخبأ
ثم حصن حـراستها جيدا”
واحمها قدر مـا تستطيع من الوقت
عاما” فعامـين، جيلا” فجيلـين، دهرا” فدهـرين
حتى يمر (مشـاة البحـار)
ويجتـازنا مـوكب الأمريكـان !
***
لا مُشْكِلَةَ لَدَيّ

أتَلَمَّسُ أحوالي…لا مشكلة لديّ
شكلي مقبولٌ. ولبعض الفتيات
أبدو بالشعر الأبيض جذاباً
نظّاراتي متقنةٌ
وحرارةُ جسمي سبعٌ وثلاثونَ تماماً
وقميصي مكويٌ وحذائي لا يؤلمني
لا مشكلة لدي

كَفّاَي بلا قَيْدٍ. ولِساني لم يُسكَتْ بعد
لم يصدر ضدي حٌكْمٌ حتى الآن
ولم أُطرَدْ مِن عملي
مسموحٌ لي بزيارة مَن سَجَنوهمْ مِن أهلي
وزيارةِ بعضِ مقابرهمْ في بعض البلدان
لا مشكلة لدي

لا يدهشني أن صديقي أَنْبَتَ قَرْناً في رأسه
وأُحِبُّ بَراعَتَهُ في إخفاء الذيل الواضحِ تحت ملابِسِهِ
وهدوءُ مخالِبِهِ يُعجبني.
قد يفتك بي، لكني سوف أسامحه فهو صديقي
وله أن يؤذيني أحياناً
لا مشكلة لدي

ما عادت بسمات مذيع التلفزيون تُسَبِّبُ لي أمراضاً.
وتعوَّدت على توقيف الكاكيَّين لألواني
ليلاً ونهاراً. ولهذا
أَحْمِلُ أوراقي الشخصيةَ حتى في المَسْبَح
لا مشكلة لدي

أحلامي رَكِبَتْ، أمسِ، قِطارَ الليلِ
ولم أعرف كيف أودعها
وأَتَتْني أنباءُ تَدَهْوُرِهِ في وادٍ ليس بذي زرعٍ
(ونجا سائقُه من بين الركّاب جميعاً)
فحمدت الله، ولم أبكِ كثيراً
فلديَّ كوابيسٌ صغرى
سأطوِّرها، إن شاء الله، إلى أحلامٍ كبرى
لا مشكلة لدي

أتلمَّس أحوالي منذ وُلدتُ إلى اليوم
وفي يأسي أتذكر
أن هناك حياةً بعد الموتِ
هناك حياة بعد الموت
ولا مشكلة لدي

لكني أسأل:
يا ألله!
أهناك حياةٌ قبل الموت؟
***

تفسير

شاعرٌ يَكْتُبُ في المَقْهى.
العجوزْ، ظنَّتْهُ يَكْتُبُ رسالةً لوالدتِهْ،
المُراهِقَة، ظَنَّتْهُ يكتب لحبيبتهْ،
الطفل، ظَنَّهُ يرسمْ،
التاجر، ظَنَّهُ يَتَدَبَّرُ صَفْقَة،
السائح، ظَنَّهُ يكتُبُ بِطاقَةً بريديَّة،
الموظَّف، ظَنَّهُ يُحْصي دُيونَهْ
رَجُلُ البوليس السِّرِّيّ،
مَشى… نحوَهُ… بِبُطء!
***
لا بأس

لا بأسَ أن نموتَ في فِراشِنا
على مِخَدَّةٍ نظيفةٍ
وبين أصدقائِنا

لا بأسَ أن نموتَ مَرَّةً
ونَعْقدَ اليديْنِ فَوْقَ الصَّدْرِ
ليس فيهما سوى الشُّحوبِ
لا خُدوشَ فيهما ولا قُيودْ
لا رايةً
ولا عَريضَةَ احتِجاج.

لا بأسَ أن نموت مِيتةً بلا غُبارْ
وليس في قُمْصانِنا
ثُقوبْ
وليس في ضُلوعِنا
أَدِلَّة

لا بأسَ أن نموت والمخدَّةُ البيضاءُ،
لا الرصيفُ
تحتَ خَدِّنا
وكَفُّنا في كَفِّ مَن نُحِبّ،
يُحيطُنا يأسُ الطبيبِ والممرِّضات
وما لنا سوى رَشاقَةِ الوداعِ
غَيرَ عابِئين بالأيامِ
تاركين هذا الكونَ في أَحوالِهِ
لعلَّ “غَيْرَنا”…
يُغَيِّرونَها.

من “منطق الكائنات”
(مقتطفات)

تمرد

قالت عبّادَةُ الشمس للشمس:
مُمِلٌّ إتِّباعُكِ كلَّ يوم!

عالَم ثالث

قال المغناطيس لبِرادة الحديد:
أنتِ حُرَّةٌ تماماً
في الاتجاه إلى حيث ترغبين!

عالَم ثالث.. أيضاً

قال القلم للمِبراة:
أنتِ كبعض الأحزاب…
يدخلها المَرء
فَتَقْصُر قامتهُ
ويضمر رأسُه!

المكيدة

قال المتلهفون على الدخول:
عَبَثاً احتفظنا بمفاتيحنا طوال العمر
فقد غَيَّروا الأقفال!

المِرْآة

قالت المِرْآة:
ما أشد تعاستي!
لا أحد ممن ينظرون إليّ
يريد أن …
“يراني”.

تَوْقُ

قالت العتبة:
ليتني أدخل إلى الصالون
قال الصالون:
ليتني أخرج إلى الشرفة
قالت الشرفة:
ليتني …
أطير

بِلادي بِلادي

قال الذي التفَّت عليه شِباك الموت في المنفى:
السمكة،
وهي في شِباك الصيادين،
تَظلُّ تحمِلُ رائحةَ البَحْرْ

الحبل

قالت ربة البيت:
الغسّالة الأوتوماتيكية الفخمة
لا تدخلها إلا الملابس المتَّسِخة
وحَبْلُ الغسيل المشبوح بين مسمارَيْن
لا يحمِلُ إلا ما هو نَظيفْ.

الأفعى

قالت الأفعى:
رغم أن البشر يلعنونني
أظل أفضل من بعضهم
وعندما ألدَغُ أحداً
فإنني، على الأقَلّ، لا أدَّعي صداقتَه!

العِلكة

قالت العِلكَة:
أشعر بالضياع…
ففي فم السياسي، أصبح بياناً هاماً
وفي الجريدة، أصبح الافتتاحية
وفي وعود العشّاق، أصبح تنميقاً للكذِب…
….
فقط في فم العاهرة
أحتفظ بصفاتي!
***

الشهوات

كسّر البرق بللوره في الأعالي
وافلت من دغله نمر طائش اللونِ
رنّت على ظهره فضةُ الليل والرغبةِ الغامضة
كأنّ الصواعقَ تعدو على جسمه وهو يعدو ويعدو ويعدو
ويعلو عن الأرض
حتى لَيوشِكَ ان يشغلَ الجاذبيةَ عن شُغلِها
لحظةً
ثم يرقى الى ما يشاءُ الخَيالْ
هذه شهوتي للتي اشتهيها بخمس حواسٍ
ولكنها لا تُنالْ.

نمرٌ طائشٌ فى علاليه قلبي
ووثباته طردُ ضوءٍ لليلٍ وليلٍ لضوءْ
وأنا لم أعد اشتهى أيَّ شيء
فانا اشتهى كلَّ شيء
من زمان يليق بموتي
إلى أول المشي واللثغ والأول الابتدائي
حَبِّ الشباب ومشطِ السخافةِ
رسمِ الشوارب بالحِبْر فوق الشفاهِ
دويِّ البلوغ الذى يخلط الرعب باللذةِ
المستطيله شيئا فشيئا
وياخذنا، راجفين، إلى موعدٍ أَهْبَلٍ
تحت “بيت الدَّرَجْ”

شهوةٌ لِلَّعِبْ
لِلُصوصيَّةِ الطفل فينا
نغافل بُخْلَ العجوز التي وجهها مثل كعكٍ تَبَلَّلَ بالماءِ
كي نسرقَ اللوز مِن حَقْلِها
مُتْعَةُ العُمْرِ ان لا ترانا
وأمتع منها اذا ما رأتنا
مَراجِلُنا فى الهَرَبْ
وأمتع من كل هذا
إذا استلمت خيزرانتُها واحداً
وانْضَرَبْ

شهوةٌ للوساوس في ليل قريتنا
كلُ من زادَ عن عمرنا سنةً
خَوَّفَ الكلَّ بالضبع أو بابن آوى
وفاخَرَنا بالجَسارةِ
واصْفَرَّ خَدّاهُ مِن قِطَّةٍ عابِرَه
وأنا اشتهى كل شيء
من مكان يليق بموتى
الى شغف ازرق النار بالجارة الفائرة
مِن حرير التلامس والانسجامْ
والنعاس الشفيفِ
وذاك الحفيف إذا النور حَكَّ المخدةَ شيئاً فشيئا
وعز علينا القيامْ
إلى شهوتي لمطارٍ رحيمْ
ولذاك الطراز الذي لم أجربه من سفرٍ للسفر
حيث لا يغرس الضابط الوحش نابيه في روح روحي
ويجلس في كامل الاعتزاز بسلطانه
مثل ضبعٍ وسيمْ

شهوة لوجود النساء اللواتي يخفن قليلاً
ولكن يقفن طويلاً بجفن الردى وهو نائم
وطرحاتهن الغيوم وأقدامهن الجنان
وفى روحهن الأساور والماس لا في المعاصم
يطرز أثوابهن العجاج الكريم
فيخدشن خوذة عصر الغزاة ويسقطن عصر الهوانم

شهوة لوجود الرجال الذين بنوا فى المضافة
بيت الكرم
وبيت النكات اللئيمه
بيت التهكم من كل عال قوى
وبيت المساء الطويل بطول الجدال
وأخبار كل البلاد كأن الحصيرةَ من تحتهمْ
هيئةٌ للأُمَمْ

شهوة لبلاد تطالب ابناءَها
باقل من الموت جيلا فجيلا
وفيها من الوقت وقتٌ نخصصه
للخطايا الحميمه والغلط الادمى البسيط
وزحزحةِ الافتراض البطوليِّ عنّا قليلا
فمسكينةٌ أُمَّةٌ حين تحتاج كلَّ البطولات من كلِّ أبنائها
وتعيش الحياةَ قتيلا قتيلاً

شهوةٌ لبلاد تقل الاناشيد فيها
وفيها نعود الى نمنمات احتياجاتنا العابرات
بلا خجل او ندم
شهوة ان ارد على الهاتف المتاخر ليلا
بدون التوجس من كارثه
شهوة ان اكون الضحيه لامراة عابثه
لا لثوريِّ هذا الزمان
شهوة ان تكون الخنازير مطرحها
فى الحظائر او فى المسالخ او فى البرارى
وليس على المقعد المخمليّ
شهوة ان يقوز الفؤاد باحلى الوظائف
حرية الشكر حرية الصمت
حرية الرقص حبا اذا ما هوى
والتخلى الانيق اذا ما نوى
والتنقل ما شاء بين الرضى والجفاء

شهوة ان تكون الخصومة فى عزها
واضحة
غير مخدوشه بالعناق الجبان
فقبلات من لا اود حراشف سردينة
وابتسامته شعرة فى الحساء
شهوة ان تكون المودة فى عزها
واضحة
دون طُعم الوعود ودون اللغة
فاللغة
علبة للرياء
واللغة
لعبة فى يدى من يشاء
واللغة
رشوة للنساء
واللغة
سمسم الكاذبين الوفير
وفخ يهيا للبنت منذ الصباح المنمق
حتى سرير المساءْ

شهوة لغموض العتب
شهوة لاعتذار العيون الذكيّ
شهوة للضمير الانيق
شهوة ليد فى يدى فى الزحامْ
شهوة ان نَغُفَّ الحياةَ كإبريقِ ماءٍ
تبلل فخّاره بالندى
شهوة ان يقول المحقق
من اطلق النار فى راس (ناجى العلى)
شهوة ان يحذرنى احد الناس من طعنة فى الظلامْ
شهوة ان ارى ما يُرى كُلُّهُ
فى شمولٍ عظيمٍ يوحد بين نجوم السماءِ
وخصلةِ عُشْبٍ بقاع البحارِ
وبين كهوف العتامِ وقوسِ الافُقْ

شهوة للقاء مع امراتين فى امراة واحدة
صبحها فى وقار الغسق
ليلها فى فجور الشفق
هى راهبة فى النهار
وفى الليل مرغابة للمسرات
ولوالة بالنداءات مصهالة بالشبق

شهوة لتلاوين نشوتنا
فهى خضراء غابيَّةٌ فى ذراعيكِ عند انغلاق العناق علينا
حبيسين فى واسع من فضاء النوايا
سجينين مثل العصافير فى ريشها
وهى تلهو وتلعب فى الجو هابطة صاعدة
شهوة لتلاوين لذتنا
وهى دائرة من بداياتها لبداياتها عائدة
وهى زرقاء فضيه حين تلمع رعشاتها فى العظام
وتغدو انينا وتغدو رنينا
ونصل المباهج يجتاز جسمى وجسمك
فى لحظة واحده
شهوة لتلاوين لمساتنا
فهى شاش الجراح التى خلف البعد فينا
وبعض الدواء
وهى زلزالنا الهش تسرى نعومته
بالدوى الفجائى عند اللقاء
وهى خبث الثعالب عند اللعب
وهى ركن الملاهى الفسيح
المراجيح والطير والريح
وهى المخدات
اذ نستريح وعند الدعابات
شيطنة من نوايا تزيح الحياء
وتفتح باب الشغب
شهوة ان اشب على سلَّمٍ شاهقٍ
فى اقاصى السماء
واستاذن الله، اسألهُ
هل راتنا عيون الحبيب نميل
كحزمة قمح
من المنجل الملتوى
للجفاف المؤكد
للمطحنة؟
ياحبيب المحبين انا امتحنا كثيرا
وانا امتحنا طويلا
فرحماك ياخالق الحاكمين وياخالق الناس
ياخالق الوحش والسوسنه
كلما كسر البرق بلوره فى الاعالى
اشتهيت اقل قليل الحياة فما لاح لى غير موتى
بلاداً أُسَمّيكِ أَم غُولةً يابلادى؟
فهلاّ تركْتِ لنا فسحةً كى نُطيلَ البكاءَ قليلا على الميتين
وهلا تركت لنا فسحة
كى نُهيِّئَ فوجا جديدا
من الذاهبين اليك باكفانهم راكضين
اتركى فسحة كى نربى الضحايا على مهلنا
خذيهم رغيفا رغيفا
ولا تاخذيهم طحين
اتركى فسحة كى يشب البنفسج فوق المقابر
شبرا
ووقتا لتفرج عنا السجون