{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [سورة الأنفال: 31-33].
سبب نزول الآيات:
– قيل: إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث ، فإنه لعنه اللّه كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم وأسفنديار، ولما قدم وجد رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم قد بعثه اللّه وهو يتلو على الناس القرآن، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس، جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: باللّه أينا أحسن قصصاً أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن اللّه تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم أن تضرب رقبته صبراً بيديه، ففعل ذلك وللّه الحمد، وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي اللّه عنه كما قال ابن جرير.
– عن أنس بن مالك قال أبو جهل ابن هشام: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فنزلت: { {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [أخرجه البخاري في صحيحه].
– قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، ويقولون: غفرانك غفرانك، فأنزل اللّه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}. قال ابن عباس: كان فيهم أمانان النبي صل اللّه عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صل اللّه عليه وسلم وبقي الاستغفار [أخرجه ابن أبي حاتم].
تفسير الآيات:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا}: يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته، إذا تتلى عليهم أنهم يقولون: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} وهذا منهم قول بلا فعل، وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً، وإنما هذا قول منهم يغرون به أنفسهم ومن اتبعهم على باطلهم،
{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: جمع أسطورة: أي كتبهم، اقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس، وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر اللّه عنهم في الآية الأخرى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} إلى {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:5 -6] أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه.
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، وهذا مما عيبوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:53]، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] ، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:187].
. وقال الأعمش عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة قال: فأنزل اللّه: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [المعارج:1-2] وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} يقول ما كان اللّه ليعذب قوماً وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم، ثم قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يقول: من قد سبق له من اللّه الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار، يستغفرون يعني يصلون، يعني بهذا أهل مكة، وقال الضحاك: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يعني المؤمنين الذين كانوا بمكة.
وقال رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: «أنزل اللّه عليّ أمانين لأمتي: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» [رواه الترمذي في سننه]. ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أن رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم قال: «إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» [أخرجه أحمد والحاكم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه].