قال الله تعالة { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [سورة التوبة: 54-56].
تفسير الآية ابن كثير
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ } أخرج ابن جرير في اللباب قال الجد بن قيس للرسول صل الله عليه وسلم عندما دعاه للجهاد: إني رأيت لم أصبر ولكن أعينك بمالي، فنزلت فيه الآيات أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم { إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } أي والأعمال إنما تصح بالإيمان.
{ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى } أي ليس لهم قدم صحيح ولا همة في العمل، { وَلَا يُنْفِقُونَ } نفقة { إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } ، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وسلم: « أن اللّه لا يمل حتى تملوا » و « أن اللّه طيب لا يقبل إلا طيباً »، فلهذا لا يتقبل اللّه من هؤلاء نفقة ولا عملاً، لأنه إنما يتقبل من المتقين.
يقول تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم: { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ } ، كقوله تعالى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، وقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال الحسن البصري: بزكاتها والنفقة منها في سبيل اللّه، وقال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة، واختار ابن جرير قول الحسن، وهو القول القوي الحسن.
وقوله: { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم؛ عياذاً باللّه من ذلك، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فما هم فيه، يخبر تعالى نبيه محمداً صلى اللّه عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } يميناً مؤكدة { وَمَا هُمْ مِنْكُمْ } أي في نفس الأمر، { وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } أي فهو الذي حملهم على الحلف.
تفسير الآية القرطبي
فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ } أي وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ الكوفيون { أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ } بالياء، لأن النفقات والإنفاق واحد. الثانية: قوله تعالى: { وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى } قال ابن عباس: إن كان في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل، وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابًا ولا يخشى في تركها عقابًا. فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة. الثالثة: قوله تعالى: { وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } لأنهم يعدونها مغرمًا ومنعها مغنمًا وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبلة ولا مثاب عليها حسب ما تقدم.
{ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ } أي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا } قال الحسن: المعنى بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله. وهذا اختيار الطبري. وقال ابن عباس وقتادة : في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وهذا قول أكثر أهل العربية، ذكره النحاس. وقيل : يعذبهم بالتعب في الجمع. وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير، وهو حسن.
وقيل : المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون. { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين، سبق بذلك القضاء، { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } بين أن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون. نظيره { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [سورة المنافقون: 1]. والفرق الخوف، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا.