قال الله تعالى { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [سورة الزخرف: 32].
سبب نزول الآية ” أهم يقسمون رحمة ربك ”
عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بعث الله محمدًا رسولًا أنكرت العرب ذلك، ومن أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد، قال: فأنزل الله عز وجل: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } [يونس:2] وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل:43] يعني: أهل الكتب الماضية، أبشًرا كانت الرسل.
قال الضحاك: ثم قال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف:109] أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم، قال: فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا، وإذا كان بشرًا فغير محمد كان أحق بالرسالة فأنزل {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [سورة الزخرف: 31] يقولون: أشرف من محمد صلى الله عليه وسلم، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى ريحانة قريش هذا من مكة، ومسعود بن عمرو بن عبيد الله الثقفي من أهل الطائف، قال: يقول الله عز وجل رًدا عليهم { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } أنا أفعل ما شئت.
تفسير الطبري
وقوله : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } يقول تعالى ذكره: أهؤلاء القائلون لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يا محمد، يقسمون رحمة ربك بين خلقه، فيجعلون كرامته لمن شاءوا، وفضله لمن أرادوا، أم الله الذي يقسم ذلك، فيعطيه من أحب، ويحرمه من شاء ؟. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
وقوله: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يقول تعالى ذكره : بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا، فنجعل من شئنا رسولًا، ومن أردنا صديقًا، ونتخذ من أردنا خليلًا، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات، { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيًا، وهذا فقيرًا، وهذا ملكًا، وهذا مملوكًا { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا }. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
عن قتادة قال: قال الله تبارك وتعالى { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فتلقاه ضعيف الحيلة، عيي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، سليط اللسان، وهو مقتور عليه، قال الله جل ثناؤه : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } كما قسم بينهم صورهم وأخلاقهم تبارك ربنا وتعالى، وقوله : { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا }، يقول: ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل، يقول: جعل تعالى ذكره بعضا لبعض سببًا في المعاش في الدنيا.
وقد اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا }. فقال بعضهم: معناه ما قلنا فيه، وعن السدي قال: يستخدم بعضهم بعضًا في السخرة، قال ابن زيد: هم بنو آدم جميعًا، قال: وهذا عبد هذا، ورفع هذا على هذا درجة، فهو يسخره بالعمل، يستعمله به، كما يقال: سخر فلان فلانًا. وقال بعضهم: بل عنى بذلك ليملك بعضهم بعضا. وعن الضحاك ، في قوله : { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } يعني بذلك: العبيد والخدم سُخر لهم.
وقوله : { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } يقول تعالى ذكره: ورحمة ربك يا محمد بإدخالهم الجنة خير لهم مما يجمعون من الأموال في الدنيا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، عن قتادة { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } قال: يعني الجنة. وعن السدي { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ } يقول: الجنة خير مما يجمعون في الدنيا.