{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ الله مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [سورة النور: 32-34]
سبب نزول الآية:
في اللباب: أخرج ابن السكن: عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة، فنزلت {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم. “”ذكر الآثار الواردة في ذلك””
قال الحافظ البزار في مسنده: كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها معاذة يكرهها على الزنا فلما جاء الإسلام نزلت: { {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} وقال الأعمش: نزلت في أمة لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة كان يكرهها على الفجور وكانت لا بأس بها فتأبى، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}
وروى النسائي عن جابر نحوه. وعن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر، وكان عند عبد الله بن أبي أسيراً وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة، وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}
وقال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه ذلك، فذكره أبو بكر للنبي صل الله عليه وسلم، فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا.
تفسير الآيات ابن كثير:
اشتملت هذه الآيات الكريمات، على جمل من الأحكام المحكمة، فقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}: أمر بالتزويج، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه، واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» [أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود]، وقد جاء في السنن: «تزوجوا الولود، تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة»، الأيامى جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له، يقال: رجل أيم وامرأة أيم.
{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِهِ}: قال ابن عباس: رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِهِ}: وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِهِ}» وعن ابن مسعود التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِهِ}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صل الله عليه وسلم: « ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» [رواه أحمد والترمذي والنسائي]، وقد زوّج النبي صل الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لا يجد عليه إلا إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}: هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام، كما قال صل الله عليه وسلم: « ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» وهذه الآية مطلقة والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله: { {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء:25]، إلى قوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:25] أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم لأن الولد يجيء رقيقاً { {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25]،
قال عكرمة في قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا}: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السماوات والأرض حتى يغنيه الله. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}: هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب، يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه.
{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}: قال بعضهم: أمانة، وقال بعضهم: صدقاً، وقال بعضهم: مالاً، وقال بعضهم: حيلة وكسباً، وقوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ}: اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، وقال آخرون: بل المراد هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة وهذا قول الحسن ومقاتل وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم واختاره ابن جرير وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب، وقد تقدم الحديث: « ثلاثة حق على الله عونهم» فذكر منهم المكاتب يريد الأداء، والقول الأول أشهر.
وعن ابن عباس في الآية {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ}: قال: ضعوا عنهم من مكاتبتهم، وقال محمد بن سيرين في الآية: كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته، وقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}: الآية، كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}: هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن.
وقد نهى رسول الله صل الله عليه وسلم عن كسب الحجام، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وفي رواية: « مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث»، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أي لهن، كما تقدم في الحديث عن جابر. وقال ابن عباس: فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم، وإثمهن على من أكرههن؛ وقال أبو عبيد عن الحسن في هذه الآية: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}قال: لهن والله، لهن والله، {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}: أي لمن اتقى الله وخافه، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.