{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتَابًا} [سورة الفرقان: 68-71]

سبب نزول الآية:
• عن عبد الله بن مسعود قال: سئل رسول الله صل الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل للّه أنداداً وهو خلقك»، قال: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك»، قال: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»، قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آَخَرَ} الآية [أخرجه النسائي والإمام أحمد].

• عن سلمة بن قيس قال، قال رسول الله صل الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا إنما هي أربع» فما أنا بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله صل الله عليه وسلم: «لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا».

• قال ابن عباس: إن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صل الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آَخَرَ}، ونزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53]

تفسير الآيات ابن كثير:
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}: وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صل الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنا؟» قالوا: حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم لأصحابه: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» قال: «فما تقولون في السرقة؟» قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره». وعن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صل الله عليه وسلم قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له» [أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك مرفوعاً].

{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}: روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: أثاماً: واد في جهنم، وقال عكرمة {يَلْقَ أَثَامًا}: أودية في جهنم يعذب فيها الزناة، وقال قتادة {يَلْقَ أَثَامًا}: نكالاً، كنا نحدث أنه واد في جهنم، وقال السدي {يَلْقَ أَثَامًا}: جزاء، وهذا أشبه بظاهر الآية وبهذا فسره بما بعده مبدلاً منه، وهو قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: أي يقرر عليه ويغلظ {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}: أي حقيراً ذليلاً، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}: أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر {إِلَّا مَنْ تَابَ}: أي في الدنيا إلى الله عزَّ وجلَّ من جميع ذلك فإن الله يتوب عليه، وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93]، فإن هذه وإن كانت مدنية، إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب.

{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: في معنى قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}: قولان: أحدهما أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات، قال ابن عباس: هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الؤرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات، وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصاً، وأبدلهم بالفجور إحصاناً، وبالكفر إسلاماً.

والقول الثاني: أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، كما ثبتت السنة بذلك وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي الله عنهم. فعن أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نحّوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال فيقال له: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا» قال: فضحك رسول الله صل الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» [أخرجه مسلم في صحيحه].

وعن أبي هريرة قال: ليأتين الله عزَّ وجلَّ بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات، قيل: من هم يا أبا هريرة؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات [أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفاً]، وقال علي بن الحسين زين العابدين {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}: قال: في الآخرة. وقال مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولاً يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال: يا رسول الله رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صل الله عليه وسلم: «أأسلمت؟» قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكك له وأن محمداً عبده ورسوله فقال النبي صل الله عليه وسلم: «فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ومبدل سيئاتك حسنات»، فقال: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ فقال: «وغدراتك وفجراتك»، فولى الرجل يكبر ويهلل [رواه ابن أبي حاتم وأخرجه الطبراني بنحوه].

ثم قال تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيراً كبيراً أو صغيراً، فقال تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}: أي فإن الله يقبل توبته، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]: أي لمن تاب عليه.