{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ  كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [سورة الحج: 19-22].

سبب نزول الآية تفسير بن كثير:
ثبت في الصحيحين عن أبي ذر أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في حمزة وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر [هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير]،

روى البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.

قال قتادة في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم فأفلج الله الإسلام على من ناوأه، وأنزل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}.

تفسير الآية:
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}: وقال مجاهد في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث، وقال مجاهد وعطاء في هذه الآية: هم المؤمنون والكافرون. وقال عكرمة {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}: هي الجنة والنار، قالت النار: اجعلني للعقوبة، وقالت الجنة: اجعلني للرحمة، وقول مجاهد وعطاء إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عزَّ وجلَّ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل، وهذا اختيار ابن جرير وهو حسن.

ولهذا قال: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}: أي فصلت لهم مقطعات من النار، قال سعيد بن جبير: من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}: أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة، وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم ، وكذلك تذوب جلودهم.

عن أبي هريرة عن النبي صل الله عليه وسلم قال: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان» [رواه ابن جرير والترمذي وقال: حسن صحيح وأخرجه ابن أبي حاتم بنحوه]. وفي رواية: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه تكرّهه، قال: فيرفع مقمعه معه فيضرب بها رأسه، فيفرغ دماغه، ثم يفرغ الإناء من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه، فذلك قوله:  {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} .

وقوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}: عن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض» [أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري] وروى الإمام أحمد: عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غسَّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» [أخرجه الإمام أحمد في المسند]

قال ابن عباس في قوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}: قال: يضربون بها فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور، وقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}: قال سلمان: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}: وقال زيد بن أسلم في هذه الآية: بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون، وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها، وقوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}: ، كقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20]، ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولاً وفعلاً.