كان لعبدالله بن الزبير أَرض قريبة من أَرض معاوية بن أبي سفيان، فيها عبيد له من الزنوج يعمرونها، فدخلوا في أَرض عبدالله – أي تعدوا على أرضه – فكتب إلى معاوية:
“أما بعد، فإنه يا معاوية، إن لم تمنع عبيدك من الدخول في أرضي، وإلا كان لي ولَك شأن” فلما وقف معاوية على الكتاب، دفعه إلى ابنه “يزيد”، فلما قَرأه، قال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تنفذ إليه جيشاً أَوله عنده وأخره عندك يأتونك برأسه، فقال: يا بني، عندي خَيرٌ مِن ذلك، علي بدواة وقرطاس، وكتب:
“وقفت على كتابك يا ابن حواري رسول الله صل الله عليه وسلم، وساءني واللهِ ما ساءك، والدنيا هينة عندي في جنب رضاك، وقد كتبت على نفسي رقماً بالأرض والعبيد، وأشهدت علي فيه – أي تنازلت عن أرضي وعبيدي لك – ولتضف الأرض إلى أرضك، والعبيد إلى عبيدك والسلام”.
فلما وقف عبدالله على كتاب معاوية، كتب إليه: “وقفت على كتابِ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فلا عدم الرأي الذي أحله من قريشٍ هذا المحل والسلام” فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله، رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه اصفر وجهه، فقال له معاوية: يا بني. إذا رميت بهذا الداء، فداوه بهذا الدواء.
سياسة معاوية الحكيمة:
سُأل معاوية ابن أبي سفيان: كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة والدنيا تغلي؟، فقال: “إنّي لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”.
هذا الأسلوب السياسي الفطن الذي طبقة معاوية هو ما جعله يحكم بلاده في ظل حب وود من رعيته وشعبه، فقد فطن إلى معاملة الناس بالحسنى واستخدم فيه منهاج النبوة {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فلما هاجمه عبدالله بن الزبير لفعل الزنوج في أرضه كان يعلم جيدًا أن المتحدث وإن كان شديد اللهجة فهو ابن أسماء بن الصديق وابن الزبير حواري رسول الله، لذلك فطن إلى استخدام اللين والرقة في كلامه لاستئثار قلب الزبير ببضع الكلمات المهذبة واللطيفة وذلك بأن أبلغه بأن الدنيا فانية وأنه يستأثر طيب خاطره عن الأرض والأملاك.
فما كان من الزبير إلا أن رد على معاوية بأدب الحديث بعدما كان يدعوه معاوية في الرسالة الأولى، صار يدعوه أمير المؤمنين، بل ودعا له بطول البقاء ويخبره بأن اختيار قريش له للإمارة كان الرأي الصواب لأنه على درجة من السياسة عالية تجعله أهلًا لها، مما يعني بانتهاء النزاع بينهما.
طيش الشباب:
وعلى الصعيد الآخر نرى يزيد بن معاوية، يمثل حمية الشباب في أخذ كل ما هو له بالقوة والحمية والعصبية لكل ما هو من طباع مما جعله يختار الحرب على الزبير كأول اختيار ولا يرى له بديل فكيف يخاطب أحد أفراد الرعية أمير المؤمنين بتلك اللهجة، ولولا حكمة معاوية وتدبره للأمر لهاجة فتنة بين المسلمين لا يعلم عاقبتها إلا الله، فاعلم جيدًا أخي المسلم أن القوة وحدها ليست الحل الوحيد أو المناسب دائمًا لأخذ الحقوق، فقد جعلها الله خيارك الأخير وليس الأول.