{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة الأنفال: 30]

سبب نزول الآية:
قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صل اللّه عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: «يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني»، قال: من أخبرك بهذا؟ قال: «ربي» قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً، قال: «أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي»، قال فنزلت: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}.

قال ابن كثير: ذكر أبي طالب في هذا غريب جداً بل منكر، لأن الآية مدنية واجتماع قريش وائتمارهم كان ليلة الهجرة وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو ثلاث سنين والدليل على صحة ما قلنا:

 ما روى محمد بن إسحاق صاحب المغازي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحي قالوا: أجل ادخل فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، واللّه ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة، قال: فصرخ عدو اللّه الشيخ النجدي فقال: واللّه ما هذا برأي، واللّه ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ فانظروا في غير هذا.

 قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع إذا غاب عنكم أذاه؛ فقال الشيخ النجدي: واللّه ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ واللّه لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا صدق واللّه، فانظروا رأياً غير هذا، فقال أبو جهل لعنه اللّه: واللّه لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً، ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل الدية واسترحنا وقطعنا عنا أذاه.

قال: فقال الشيخ النجدي: هذا واللّه الرأي، القول ما قال الفتى، ولا أرى غيره؛ قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل النبي صل اللّه عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن اللّه له عند ذلك بالخروج، وأنزل اللّه عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30].

تفسير الآية:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ}: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: {لِيُثْبِتُوكَ} ليقيدوك؛ وقال عطاء وابن زيد: ليحبسوك، وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق، وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء، وهو مجمع الأقوال، وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء، عن مجاهد قال ابن إسحاق: أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر، ففعل ثم خرج رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم على القوم، وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذروها على رؤوسهم، وأخذ اللّه بأبصارهم عن نبيه صل اللّه عليه وسلم وهو يقرأ: {يس وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 1-9] .

وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال: دخلت فاطمة على رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم وهي تبكي، قال: «ما يبكيك يا بنية؟» قالت: يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحِجْر يتعاهدون باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: «يا بنية ائتني بوضوء»، فتوضأ رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم، ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، فطأطأوا رؤوسهم، وسقطت رقابهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم، فتناول رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال: «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً [قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة].

وعن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ}. قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صل اللّه عليه وسلم، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع اللّه نبيه صل اللّه عليه وسلم على ذلك فبات علي رضي اللّه عنه على فراش رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم، وخرج النبي صل اللّه عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صل اللّه عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً رد اللّه تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال [رواه الإمام أحمد في المسند]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}: قال عروة بن الزبير: أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.