أطلق لقب شيخ المؤرخين العرب علي قسطنطين زريق المفكر السوري المولود في دمشق عام 1909، في حي القيميرية أحد أحياء مدينة دمشق العريقة، في فترة شهد فيها أحداثاً كبرى بداية من خروج العثمانيين ودخول الجيش العربي، وقيام المملكة السورية بقيادة فيصل الأول، ومعركة ميسلون التي قامت بين الجيش الفرنسي من جهة وقوات المتطوعين السوريين من جهة أخري، والانتداب الفرنسي، إضافة إلى أن المنمنمات والفسيفساء التاريخية لمدينة دمشق التي عاش بها زريق تركت في نفسه وعيا تاريخيا وثقافيا يؤمن بالتعدد والتنوع والاختلاف .
نشأة قسطنطين زريق ودراسته العلمية والأكاديمية
خلقت البيئة التي عاش فيها قسطنطين زريق في نفسه إيمانا راسخاً بالتعددية منذ طفولته، حيث درس خلال مراحل تعليمه الثلاث في مدرسة الآسية وهى مدرسة تتبع الطائفة الأرذثوكسية، وتميزت بإيمانها الوطني ودرس فيها الكثير من الطلاب المسلمين .
أنهى شيخ المؤرخين العرب قسطنطين زريق دراسته الثانوية في العام الذي توفي فيه والده في كولومبيا عام 1924، وانتقل بعدها زريق إلى بيروت ليدرس في الجامعة الأمريكية الرياضيات، لكنه لم يستمر ودرس التاريخ في كلية الآداب، حيث نال على شهادة البكالوريوس عام 1928 بمرتبة شرف أولى، وسافر إلى أمريكا ليحصل على درجة الماجستير من جامعة شيكاجو، وفي عام 1930 حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة عام من جامعة برينستون الأمريكية .
عاد زريق إلى بيروت وعمل بالجامعة الأمريكية في الفترة من 1930 حتى 1945، كما درّس في جامعة دمشق وجامعتي كولومبيا وجورج تاون في أمريكا ة كأستاذ زائر، وعُين فيما بعد رئيساً لجامعة دمشق .
مناصب دبلوماسية ونشاط ثقافي إقليمي وعالمي
عمل زريق في السلك الدبلوماسي مستشار أول ثم وزير مفوض في المفوضية السورية بواشنطن في مرحلة الجلاء الفرنسي، وفي الفترة من 1945 حتى 1947 مثل سوريا في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، بعدها شغل منصب نائب رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، تم استدعائه عام 1949 لسوريا .
كان رئيسًا لجامعة دمشق، واستقال من منصبه عام 1952 احتجاجًا على دخول قوات من الجيش للحرم الجامعي إبان حكم العقيد أديب الشيشكلي، وغادر سوريا إلى بيروت حيث أصبح رئيساً بالوكالة في الجامعة الامريكية، خلال تلك الفترة نشط في العديد من المنظمات الثقافية الاقليمية والعالمية، فكان رئيسًا لجمعية أصدقاء كتاب لبنان .
رئيس مجلس أمناء الدراسات الفلسطينية، عضو في الهيئة الدولية لكتابة التاريخ العلمي والحضاري للإنسانية برعاية اليونسكو، عضو فخري في الجمعية التاريخية الامريكية، عضو مراسل في مجمع اللغة العربية في دمشق .
أصدر شيخ المؤرخين العرب عدداً كبيراً من الكتب المهمة في التاريخ وقضايا الفكر والقومية العربية والنهضة والحضارة وكتب التحقيق التراثي ومنها، نظرات في الحياة القومية العربية المنفتحة في الشرق العربي، أمراء غسان من آل جفنة، تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، هذا العصر المتفجر، نحو عالم عربي أفضل، نحن والتاريخ ،معنى النكبة، الكتاب الأحمر، في معركة الحضارة ، اليزيدية قديماً وحديثاً، تاريخ ان الفرات .
المنجز الفكري لشيخ المؤرخين قسطنطين زريق
يعد شيخ المؤرخين العرب قسطنطين زريق، أحد أهم رموز الفكر السوري العالمي والعربي المعاصر، واستمر في إنتاج البحوث الاكاديمية وتأليف الكتب حتى لحظة وفاته عام 2000، ويلخص المنجز الفكري لأعماله في ثلاثة مفاهيم أساسية وهي الحضارة والعقلانية والقومية، والتي انطلق من خلالها لمعالجة الواقع العربي ومشكلاته وقضاياه .
حيث انطلقت قوميته من بناء المجتمع العربي المتحرر بإمكانياته المادية والبشرية و بمنجزه وتاريخه الحضاري، وقدم زريق رؤية مختلفة عن مفهوم القومية إذ أنها تعنى لديه الانفتاح على تجارب العالم الآخر، دون التقوقع على الذات، مع الإبقاء على البعد الحضاري الذي يصبغ قوميتنا، ويكون زريق قد قدم بذلك معنى جديدا لمفهومي الحضارة والقومية ، كما عبر عن العقلانية بأنها عقلنة ما نمارسه بشكل منطقي .