{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [سورة يس: 55-59]
تفسير الآيات للقرطبي :
قوله تعالى: { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد : شغلهم افتضاض العذارى. وذكر الترمذي الحكيم في كتاب مشكل القرآن له : حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبدالله بن مسعود في قوله: { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }، قال : شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا محمد بن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس بمثله. وقال أبو قلابة : بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول أنا مع أهلي مشغول؛ فيقال تحول أيضا إلى أهلك.
وقيل : أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم؛ قال سعيد بن المسيب وغيره. وقال وكيع : يعني في السماع. وقال ابن كيسان { فِي شُغُلٍ } أي في زيارة بعضهم بعضا. وقيل : في ضيافة الله تعالى.
وروي أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب؟ فيقومون كأنما وجوههم البدر والكوكب الدري، ركبانا على نجب من نور أزمتها من الياقوت، تطير بهم على رءوس الخلائق، حتى يقوموا بين يدي العرش، فيقول الله جل وعز لهم : « السلام على عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب، أنا اصطفيتكم وأنا أجتبيتكم وأنا اخترتكم، اذهبوا فادخلوا الجنة بغير حساب فـ { لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] » فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فتفتح لهم أبوابها. ثم إن الخلق في المحشر موقوفون فيقول بعضهم لبعض : يا قوم أين فلان وفلان!؟ وذلك حين يسأل بعضهم بعضا فينادي مناد { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }.
{ فَاكِهُونَ } قال الحسن : مسرورون. وقال ابن عباس : فرحون. مجاهد والضحاك : معجبون. السدي : ناعمون. والمعنى متقارب. والفكاهة المزاح والكلام الطيب. وقال الكسائي وأبو عبيدة : الفاكه ذو الفاكهة؛ مثل شاحم ولاحم وتامر ولابن، والفكه : المتفكه والمتنعم. و { فَكِهُونَ } بغير ألف في قول قتادة : معجبون. وقال أبو زيد : يقال رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكًا.
{ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ }، { عَلَى الْأَرَائِكِ } يعني السرر في الحجال واحدها أريكة؛ مثل سفينة وسفائن، وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا » وقال ابن عباس : إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحوراء سبعين سنة، لا يملها ولا تمله، كلما أتاها وجدها بكرًا، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته؛ فيجامعها بقوة سبعين رجلا، لا يكون بينهما مني؛ يأتي من غير مني منه ولا منها.
{ يَدَّعُونَ } يتمنون من الدعاء. وقيل : المعنى أن من أدعى منهم شيئا فهو له؛ لأن الله تعالى قد طبعهم على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه. وقال يحيى بن سلام { يَدَّعُونَ } يشتهون. ابن عباس : يسألون. والمعنى متقارب. قال ابن الأنباري { وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ } وقف حسن، ثم تبتدئ { سَلَامٌ } على معنى ذلك لهم سلام. ويجوز أن يرفع السلام على معنى ولهم ما يدعون مسلّم خالص. فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على { يَدَّعُونَ }.
وروي من حديث جرير بن عبدالله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تعالى قد اطلع عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله: { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ }، فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركاته عليهم في ديارهم » ذكره الثعلبي والقشيري.
قوله تعالى: { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } ويقال تميزوا وأمّازوا وامتازوا بمعنىً، أي يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة؛ أي اخرجوا من جملتهم. قال قتادة : عزلوا عن كل خير. وقال الضحاك : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض؛ فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة. وعنه أيضا : إن لكل فرقة في النار بيتا تدخل فيه ويرد بابه؛ فتكون فيه أبدا لا تَرى ولا تُرى. وقال داود بن الجراح : فيمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين.