قد تكون البصيرة أكثر قوة من البصر مع أناس لديهم قلب نابض بالمشاعر والجرأة ، وهذا ما وجدناه حقيقة مع الشاعر اليمني عبد الله البردوني وابن قرية البردون اليمنية ، الشاعر المحنك فقد بصره في السادسة من عمره بسبب إصابته بمرض الجدري ، ولكنه استطاع أن يكون من أفضل الشعراء المعاصرين في اليمن والوطن العربي ، استطاع طوال تاريخه الأدبي أن يحافظ على كيان القصيدة العربية ، مع الشاعر اليمني البردوني تجد المتعة والجراءة والقوة والمشاعر الصادقة ، تعرض للسجن في عهد الإمام أحمد حميد الدين بسبب نضاله ضد الرجعية والديكتاتورية ، أبدع في قصائده التي امتزجت بالشعور بالعمى والشعور بالقيود والشعور بالجرح ، كل هذا جعل الشاعر يتأثر كثيرا ويخرج لنا شعرا رائعا يستحق القراءة والمتابعة ، لذلك جئنا اليوم ومعنا أفضل قصائد الشاعر اليمني المميز عبد البردوني تعالوا بنا نتعرف على بعضهم خلال السطور التالية .
قصيدة لنتعرف
أين أضعنا يا رفاق السماح فجرا أفقنا قبل أن يستفيق
نسقيه من خلف اللّيالي الشحاح دما و يسقينا خيال الرحيق
و فجأة من شاطئ اللّيل لاح و غاب فيه كالوليد … الغريق
لا تغضبوا ضاع كرجع الصداح في ضجّة الفوضى و سخف النعيق
“لنعترف ” أنا أضعنا الصباح فلنحترق حتّى يضيء … الطريق
ألم نؤجّج نحن بدء الكفاح ؟ فلنتّقد حتّى مداه … السحيق
لن ننطفي ما دام فينا جراح مسهّدات في انتظار الحريق
لن ننطفي رغم احتشاد الرياح فبيننا و النصر وعد وثيق
و فجرنا الآتي يمدّ الجناح لنا و يومي باختلاج البريق
قصيدة لا اكتراث
روّية ، أو حطمّي في كفه القدحا فلم يعد ينتشي ، أو يطعم الترحا
لا ، لم يحسّ ارتواء ، أو يجد ظمأ أو يبتهج ، إن غدت أحلامه منحا
سدى ، تمنيّن من ماتت رغائبه من طول ما أغتبق القطران واصطبحا
فعاد ، لا يرتجي ظلا ولا شجرا ولا يراقب وعدا ، جدّ أو مزحا
إذا اشتهى اقتات شلوا من تذكره وامتصّ ما خطّ في رمل الهوى ومحا
كالطيّف يحيا بلا شوق ، ولا حلم ولا انتظار رجاء ، ضنّ أو سمحا
ينقّر السهد عن ميعاد أغنية كطائر جائع ، عن سربه نزحا
وينزوي ، كضريح يستعيد صدىّ يبكي ويهزج لا حزنا ولا فرحا
لا تسألي : لم يعد من تعرفين هنا ولّى وخلّف من أنقاضه شبحا
آسي بقايا ، أو شظّي بقيتّه للريح ، لم يدر من آسى ومن جرحا
قصيدة صبوة
دكتورة الأطفال إني هنا من يوم ميلادي بلا مرضعه
عندي عصافير الهوى تجتدي حنان هذي الكرمة الطيّعه
وربما استكذبتي إنما من أين لي … أن أحرق الأقنعه
نريني كهلا وفي داخلي : من التصابي صبية أربعه
مجاعة الحمسين في أضلعي طفولة أعىّ من الزوبعه
خلف اتزاني مائج صاخب سفينة ناريّة الأشرعه
دكتورة الأطفال لا تبعدي عنّي وعن مأساتي الموجعه
لقد زرعت الحب … لكني ما ذقت إلاّ حنظل المزرعه
عمري بلا ماض … ومستقبلي كأمسيات الغابة المفزعه
قصيدة امرأة وشاعر
أتساءلين من التي آثرت … أو أين اشتياقي ؟
وتردّدين ألست من أبدعت صحوي وائتلاقي ؟
شطآن عينيّ … اخضرار مواسمي … دفئي … مذاقي
بستان وجهي … أمسيات جدائلي … ضحوات ساقي
سميتني وهج الضّحى قمرا يجلّ على المحاق
بوح الزنابق والورود إلى النّسيمات الرفاق
أنسيتني بشريّتي ونسيت بالأرض التصافي … !
وذهبت يا أغلى مرايا الحسن … أو أحلى نفاق
أتعود لي … تبكي غروبي ؟ أو تغني لانبئاقي ؟
لن تعدمي غيري ولن تلقي كصدقي واختلاقي
قد كنت موثوقا إليك … من التي قطعت وثاقي ؟
لمّا وجدت القرب منك أمرّ من سهر الفراق
آثرت حزن البعد عنك على مرارات التّلاقي
وبدون توديع ذهبت كما أتيت بلا اتفاق
ونسيت بيتك والطريق … نسيت رائحة الزقاق
لم أدر من أين انطلقت … ومن لقيت لدى انطلاقي
انسقت … لا أدري الطريق ولا الطريق يعي انسياقي
حتى المصابيح التي حولي تعاني كاختناقي
كان اللّقاء بلا وجوه والفراق بلا مآقي
فلتركيتي للنّوى أظما وأمتص احتراقي
وبرغم هذا الجدب لن أأنسى على الحلّ المراق
لكنّ لماذا تسألين ؟ بمن أهيم … ومن ألاقي ؟
فلتستريحي إنّني وحدي ، وأحزاني رفاقي
كالسندباد بلا بحار كالغدير بلا سواقي
ورجايّ ألاّ تسألي هل مت … أو ما زلت باقي ؟
قصيدة حلوة الأمس
أي شوق إليك أي اندفاعه فلماذا جوعي قناعه
لم تكوني شهية الدفء لو لم ترتعش في دمي إليك المجاعه
كنت يا حلوتي أظن اشتهائي يعد ان تبذلي يزيد فظاعه
غير أني طين يثج وتطفي ناره تقله تسمّى اضطجاعه
قد تقولين سوف أنأى ويظمى ثم يأتي وتجتدي في ضراعه
ربما أشتهيك عاما وأتهي شوق عامين في مدى ربع ساعة
حلوة الأمس ما نزالين أحلى إنما في تصوراتي الشناعه
ما اختتمنا تمثيل دور بدأنا منه فصلا لكن فقدنا البراعه
هل تخيفينني بإسعاد غيري صدقيني اذا ادعيت المناعه
فلتخصي بما لديك فلانا أو فلانا أو فلتكوني مشاعه
قصيدة العروبة
لبّيك وازدحمت على الأبواب صبوات أعياد و عرس تصابي
لبّيك يابن العرب أبدع دربنا فتن الجمال المسكر الخلّاب
فتبرّجت فيه المباهج مثلما تتبرّج الغادات للعزّاب
واخضرّت الأشواق فيه و المنى كالزهر حول الجدول المنساب
و مضى به زحف العروبة و الدنى ترنو ، و تهتف عاد فجر شبابي
إنّا زرعناه منى و جماجما فنما و أخصب أجود الإخصاب
و يحدّق التاريخ فيه كأنّه يتلو البطولة من سطور كتاب
عاد التقاء العرب فاهتف يا أخي للفجر ، وارقص حول شدو ربابي
و اشرب كؤوسك واسقني نخب اللّقا واسكب بقايا الدنّ في أكوابي
هذي الهتافات السكارى و المنى حولي تناديني إلى الأنخاب
خلفي و قدّامي هتاف مواكب و هوى يزغرد في شفاه كعاب
و الزهر يهمس في الرياض كأنّه أشعار حبّ في أرقّ عتاب
و الجوّ من حولي يرنحه الصدى فيهيم كالمسحورة المطراب
و الريح ألحان تهازج سيرنا و الشهب أكواب من الأطياب
إنّا توحّدنا هوى و مصائرا و تلاقت الأحباب بالأحباب
أترى ديار العرب كيف تضافرت فكأنّ ” صنعا ” في ” دمشق ” روابي
و كأنّ ” مصر ” و ” سوريّا ” في مأرب ” علم و في ” صنعا ” أعزّ قباب
لاقى الشقيق شقيقه ، فاسألهما كيف التلاقي بعد طول غياب ؟
اليوم ألقى في ” دمشق ” بني أبي و أبثّ أهلي في الكنانة ما بي
و أبثّ أجدادي بني غسّان في ربوات ” جلّق ” محنتي و عذابي
و أهيم و الأنسام تنشر ذكرهم حولي فتنضح بالعطور ثيابي
و أهزّ في ترب ” المعرّة ” شاعرا مثلي : توحّد خطبة و مصابي
و أعود أسأل ” جلّقا ” عن عهدها ” بأميّة ” و بفتحتها الغلّاب
صور من الماضي تهامس خاطري كتهامس العشّاق بالأهداب
دعني أغرّد فالعروبة روضتي ورحاب موطنها الكبير رحابي
” فدمشق ” بستاني ” و مصر ” جداولي و شعاب ” مكّة ” مسرحي و شعابي
و سماء ” لبنان ” سماي وموردي ” بردى ” و دجلة و الفرات شرابي
رديار ” عمّان ” دياري … أهلها أهلي و أصحاب العراق صحابي
بل إخوتي و دم ” الرشيد ” يفور في أعصابهم و يضجّ في أعصابي