قبل الحديث عن اهمية الايمان بالقضاء والقدر، لابد من معرفة معنى كلا من القضاء والقدر، فمعنى القدر لغة هو الحكم والقضاء ومبلغ الشئ ، ومعنى التقدير هو التفكر والتروية في تسوية الأمور ، أما معنى القدر اصطلاحا فهو كل ما جرى به القلم وسبق العلم به ، مما هو كائن إلى الأبد، وأنه قدر ما يكون من الأشياء ومقادير الخلائق.

الإيمان بالقدر

قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [التغابن: 11].

وعن طاوس قال: (أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: “كل شيء بقدر”، قال: سمعت عبدالله بن عمر يقول: كل شيء بقدر، حتى العَجْزُ والكَيْسُ، أو الكَيْسُ والعَجْز).

وسئل الإمام أحمد عن القدر فقال: (القدر قدرة الله) واستحسن هذا الكلام من الإمام أحمد؛ مما يدل على تبحره وفقهه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من لم يقل بقول السلف، فإنه لا يثبت لله قدرةً، ولا يثبته قادرًا؛ فالجهميةُ ومن اتبعهم، والمعتزلة المجبرة والنافية، حقيقة قولهم: أنه ليس قادرًا، وليس له الملك..

قلت: وثبت ما قاله الإمام أحمد موقوفًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد روى ابن بطة في “الإبانة” من طريق زيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “القدر قدرة الله؛ فمن كذب بالقدر، فقد جحد قدرة الله”.

الفرق بين القضاء والقدر

قدفرق العلماء بين القضاء والقدر بفرقان

الأول: أن القدر هو وقوع الخلق على وفق الأمر السابق المقضي ، أما القضاء فهو العلم السابق الذي حكم به في الأزل .

أما الفرق الثاني: فهو عكس الأول: فالقضاء هو الخلق والإيجاد والقدر هو الحكم السابق .

وهناك قول ثاني وهو الأرجح أن القدر اسم لما صار مقدرًا، والقضاء: إيجاده.

قال الخطابي رحمه الله: (القدر اسم لما صار مقدرًا عن فعل القادر).

قال ابن بطال رحمه الله: (القضاء هو المقضي).

وأما القضاء فهو الخلق؛ كما قال تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [فصلت: 12]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [سورة البقرة: 117].

أركان الإيمان بالقدر

هناك أربع مراتب أو أربع أركان الإيمان بالقدر :

(1) الإيمان بعلم الله السابق.

(2) الإيمان بكتابة الله قبل كونها.

(3) الإيمان بمشيئة الله النافذة.

(4) الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء.

شرح أركان الإيمان بالقدر

الإيمان بعلم الله السابق

أن الله سبحانه وتعالى هو العليم بعباده ويعلم أرزاقهم و آجالهم وأحوالهم ، ومن منهم من أهل الجنة ومن من أهل النار  قبل أن يخلقهم؛ قال تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ﴾ [النجم: 30]، وقال: ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ [النجم: 32].

وقد قرر الله سبحانه وتعالى بعلمه في الكافرين لو عادوا إلى الدنيا كيف يكون حالهم، فقال تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28].

وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين).

وقال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [الجاثية: 23].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: علم ما يكون قبل أن يخلقه.

قال ابن الجوزي رحمه الله: على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي.

قال ابن القيم رحمه الله: أضله الله عالمًا به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده، أنه أهل للضلال وليس أهلًا أن يهدى، وأنه لو هدي لكان قد وضع الهدى في غير محله، وعند من لا يستحقه؛ فالرب سبحانه حكيم، إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها، فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قدر عليه الضلالة، وذكر العلم إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضع الشيء في مواضعه، وإعطاء الخير من يستحقه ومنعه من لا يستحقه، فإن هذا لا يصح بدون العلم؛ فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه، وهو سبحانه كثيرًا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه أضل الكافر؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].

والله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق عباده قد علم بأحوالهم ، وما هم صائرون إليه وما هم عاملون به ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومة، فاستحقوا الثواب والعقاب والمدح والذم،  بما قاموا به من الصفات و الأفعال المطابقة للعلم السابق، ولم يكونوا يستحقون ذلك، وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأنزل كتبه وأرسل رسله وشرع شرائعه اقامة للحجة عليهم وإعذارًا إليهم، حتى لا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟! فعندما أظهر علمه فيهم بأفعالهم جعل العقاب على معلومه الذي أظهره الاختبار والابتلاء ، وقد ابتلاهم بما زين لهم في الدنيا  وبما فيها من شهوات ، كما ابتلاهم بأمره ونهيه، فذلك ابتلاء بشرعه وأمره، وهذا ابتلاء بقضائه وقدره؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ [الفرقان: 20])[7].

الإيمان بكتابة الله للمقادير

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105].

ومعنى الزبور هو الكتاب الذي أنزل على سيدنا داوود، والذِّكر: هو اللوح المحفوظ وهو  أم الكتاب .

(أ) قال تعالى: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]، والمقصود به اللوح المحفوظ، وهو “أم الكتاب”، وهو “الذِّكر” الذي كتب الله فيه كل شيء، وهذا يتضمن كتابة الأعمال قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها، وحفظه لها، والإحاطة بعددها، وإثباتها فيه.

(ب) وهناك خمسة أعمال تدخل في كتابة المقادير

الأول: تقدير كتب قبل خلق السماوات والأرض وهو تقدير أزلي سابق ، وهذا ما تقدم دليله من الآيات، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة) .

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء).

الثاني: التقدير عند أخذ الميثاق: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 172 – 174].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحُمَمُ، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي) .

قال القرطبي معنى الحمم هو الفحم

قال الطحاوي رحمه الله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان؛ فالحذر كل الحذر من ذلك؛ نظرًا وفكرًا ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال تعالى في كتابه: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فمن سأل: لم فعل؟ رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين ) .

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أعُلِمَ أهلُ الجنة من أهل النار؟ قال: ((نعم))، قال: ففيمَ يعمل العاملون؟ قال: ((كلٌّ ميسَّر لِما خلق له)) .

الثالث: التقدير العمري: وهو تقدير أعمال العباد وأرزاقهم وأعمالهم وآجالهم وسعادتهم وشقوتهم ، منذ أن كانوا في بطون أمهاتهم؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)).

الرابع: التقدير الحولي السنوي: وذلك في ليلة القدر: قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [الدخان: 3 – 5].

قال الحسن البصري رحمه الله: والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان، وإنها لليلة القدر، يُفرَق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها.

وقال ابن عباس رحمه الله: (يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر، حتى الحجاج، يقال: يحج فلان، ويحج فلان) .

الخامس: التقدير اليومي: وهو سَوق المقادير إلى مواقيتها التي قدرت لها فيما سبق؛ قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29].

ومعنى الآية: من أن الله تعالى قادرا على أن يخلق الأرزاق وعلى أن يحي ويميت ، ويُعِزَّ ويُذِلَّ قومًا، ويفك عانيا ويشفي مريضًا، ويفرج مكروبًا، ويعطي سائلا ،ويجيب داعيًا،  ويغفر ذنبًا، إلى ما لا يحصى من إحداثه وأفعاله في خلقه ما ش

الإيمان بمشيئة الله النافذة

فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 29]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40].

قال الطحاوي رحمه الله: (وكل شيء يجري بتقديره، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم؛ فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلًا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحُكمه، ولا غالب لأمره، آمنَّا بذلك كله، وأيقنا أن كلًّا من عنده )

ومتعال عن الأضداد تعني :  المخالفين، والمقصود أنه لا معارض لله سبحانه وتعالى، بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

والقدرية هم الذين نفوا مشيئة الله ط فإنهم نفوا مشيئة رب العباد ، وآمنوا بمشيئة العباد،  وقابلهم في بدعتهم الجبرية، الذين جعلوا العبد مجبرًا على أقواله وأفعاله لا مشيئة له.

أما أهل السنة فهم من ثبتوا على أن مشيئة الله تعالى نافذة ، وأن العباد لهم قدرة على أعمالهم

ولهم مشيئة، والله خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، وهو الذي منحهم إياها، وأقدرهم عليها، وجعلها قائمة بهم، مضافة إليهم حقيقة، وعلى ذلك كلفوا، وعليه يثابون ويعاقبون، ولم يكلفهم الله إلا وسعهم، ولم يحمِّلْهم إلا طاقتهم: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30].

الإيمان بأن الله خالق كل شيء

قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ [النجم: 43]، والإضحاكُ والإبكاءُ فعلانِ اختياريان؛ فهو سبحانه المُضحِك ع الكتب االمُبكِي للعبد.

وقد تم الاتفاق على ذلك في جميع الكتب السماوية وفي العقول والفِطَر  والاعتبار، ولم يخالف في ذلك إلا القدرية مجوس هذه الأمة؛ حيث أخرجوا طاعات الملائكة والرسل  والأنبياء والمؤمنين عن ربوبيته ومشيئته، وجعلوهم هم الخالقين لها، وأنها ليست مشيئته بل مشيئتهم ، وبقدرتهم لا بقدرته؛ تعالى الله عما يقولونه علوًّا كبيرًا!

قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴾ [القمر: 52].

قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: (فكما لم يُوجِدِ العبادُ أنفسَهم لم يُوجِدوا أفعالهم؛ فقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم تَبَعٌ لقدرة الله سبحانه وإرادته ومشيئته وأفعاله؛ إذ هو تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأفعالهم، وليس مشيئتهم وإرادتهم وقدرتهم وأفعالهم هي عين مشيئة الله تعالى وإرادته وقدرته وفعله… فالله تعالى هادٍ حقيقةً، والعبد مهتدٍ حقيقة؛ ولهذا أضاف تعالى كلًّا من الفعلين إلى من قام به، فقال: ﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ [الإسراء: 97]؛ فإضافة الهداية إليه تعالى حقيقة، وإضافة الاهتداء إلى العبد حقيقة… وكذلك يضل الله تعالى من يشاء حقيقة، وذلك العبد يكون ضالًّا حقيقة، وهو سبحانه خالق المؤمن وإيمانه، والكافر وكفره؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾ [التغابن: 2]؛ أي: هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك كونًا لا شرعًا؛ فلا بد من وجود مؤمن وكافر، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال).

الأمر الكوني والأمر الشرعي

قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وأمر الله ينقسم إلى قسمين: أمر كوني، وأمر شرعي.

والأمر الكوني هو أمر قدري متعلق بمشيئة الله تعالى بما يجب ويكره ، فهو الخالق للملائكة المحب لهم ، والخالق لابليس الكاره له  فمشيئته سبحانه وتعالى عامة بما يحب ويُبغِض.

أما الأمر الشرعي فهو الأمر المتعلقة بأوامر الله تعالى التي يأمر بها عباده وكلها محبوبة الى الله؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7].

ولذلك فإن توافق إيمان المؤمن مع الأمر الشرعي والأمر الكوني ،  والكافر بكفره وافَق الأمر الكوني الذي هو مشيئة الله، ولم يوافق الأمرَ الشرعي الذي هو محبوب لله.

كما أن إرادة الله تعالى مقسمة إلى إرادة كونية، وهي مشيئته، وإلى إرادة شرعية، وهي محبته

ولا يتوجب الإيمان بالقدر ترك العمل و الاتكالَ ، ولكنه يوجب الجد والاجتهاد.

كما أن جميع الكتب السماوية والسنن النبوية قد اتفقت على أن القدر السابق لا يوجب الاتكال و يمنع العمل ، بل يوجب الحرص على العمل الصالح والجد والاجتهاد،  ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف الأقلام بها، فقيل له: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: ((لا، اعملوا فكلٌّ مُيسَّر))، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 – 10])) .

فقد قدر الله تعالى المقادير وهيأ أسبابها ، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاد و المعاش ، وقد يسر كلًّا من خَلْقه لِما خُلق له في الدنيا والآخرة؛ فالعبد مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها، كان أشد اجتهادًا في فعلها والقيام بها أعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، من كون النكاح سببًا في وجود النسل، والحرث سببًا في وجود الزرع، وكذلك العمل الصالح سببًا في دخول الجنة، والعمل السيئ سببًا في دخول النار.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)).

معنى قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39].

وأن ذلك الفهم قد يجيب على الكثير من الإشكالات التي تشكل على بعض الناس؛ مثل إشكالية زيادة الرزق أو زيادة العمر

المذكورة في الحديث الصحيح: ((من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصِلْ رحمه)).

وقد أفاد شيخ الإسلام ابن تيمية الجواب على هذه التساؤلات بأن الأرزاق والأعمار نوعان:

(نوع جرى به القلم وكتب في أم الكتاب، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، ونوع أعلم الله به ملائكته، فهذا هو الذي يزيد وينقص؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]، وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي قدر الله فيه الأمور على ما هي عليه، ففي كتب الملائكة يزيد العمر وينقص، وكذلك الرزق بحسب الأسباب؛ فإن الملائكة يكتبون له رزقًا وأجلًا، فإذا وصل رحمه زيد له في الرزق والأجل، وإلا فإنه ينقص له منهما).

فوائد الإيمان بالقدر

1­- التوكل على الله تعالى عند فعل الأسباب، وعدم الاعتماد على هذه الأسباب؛ لأن كل شيء إنما هو بقدر الله.

2­- الإيمان بالقدر يجعل العبد لا يعجب بنفسه عندما يحصل على مراده ،  حصول العبد على النعم من الله تعالى حيث هيلا له أسبابها و قدرها له،  فالفضل والمنة لله.

3­-الراحة النفسية والطمأنينة بما يحدث عليه من أقدار الله تعالى، فلا يقلق بحدوث مكروه أو  بفوات محبوب ، لأن ذلك بقدر الله تعالى، وهو كائن لا محالة.

4­- الإيمان بالقدر يهون على العبد المصائب؛ لأنه يعلم أن ذلك بقدر الله تعالى، وما كان من عند الله تعالى،  فالتسليم له والرضا به  شأنُ كل عاقل.

5­- الإيمان بالقدر وسيلة للخلاص من الشرك؛ لأن الذي يؤمن بالقدر مقر بأن هذا الكون وما فيه صادر عن معبود واحد وإله واحد ، ومن لم يؤمن بهذا فإنه يجعل من دون الله آلهة وأربابًا.