تعكس الأمثال الشعبية عادات وتقاليد وأفكار ومعتقدات الشعوب، ويعد ضرب المثل أكثر شكل تعبيري ينتشر في كل الثقافات، فهو بمثابة عصارة الحكمة والذاكرة الحية للشعوب، وتمتاز الأمثال بسرعة انتشارها وانتقالها مشافهة من جيل إلى جيل، ومن لغة إلى أخرى عبر أزمنة طويلة وأمكنة عديدة ومختلفة، والخاصية الأكثر أهمية في الأمثال الشعبية هي كثافة معانيها و إيجازها اللغوي المحمل بالدلالات .
المثل كالعلامة :
حظيت الأمثال الشعبية بعناية خاصة عند كل الشعوب وفي كل الحضارات، وقد تميز اهتمام الأدباء العرب بالأمثال الشعبية، وكان لهم السبق في دراسة هذا الشكل التعبيري، نظراً لما يكتسبه المثل في الثقافة العربية و لما يكتنفه من إشارات ودلالات وعلامات، ويشير المؤرخ الإسلامي ابن الأثير إلى أهميتها ويحيط الدارس لها أن ” الحاجة إليها شديدة، وذلك لأن العرب لم تصغ الأمثال إلا لأسباب أوجبتها وحوادث اقتضتها، فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يعرف بها الشيء ” .
قصة المثل ” جنت على نفسها براقش ” :
” جنت على أهلها براقش ” أو ” جنت على نفسها براقش” أو ” على أهلها تجني براقش ” : ذكر رواة ومحدثون أن هذا المثل بدأ يتداول على ألسنة الناس في العصر الجاهلي، ويضرب لمن صنع أو عمل عملا ضر به نفسه أو أهله، ويقال أن لهذا المثل قصتين هما :
– القصة الأولى :
يقال أن براقش كانت كلبة، وقد أغار لصوص أو قوم أخرين على قومها، فنبحت، وتنبه قومها لنُباحها، فقاموا، وذهبوا إلى مغارة حتى يختبئون فيها، وعندما جاء اللصوص أخذوا يبحثون عن أهل القرية، ولم يجدوا أحد، وعندما هموا بالانصراف نبحت الكلبة براقش، فانتبه لها اللصوص، وقتلوا عددا من قومها، وقتلوها أيضا، فكانت هي من دل على قومها، فقيل : جنت على أهلها براقش .
وقال حمزة بن بيض أحد شعراء الدولة الأموية في ذلك الموقف : لم تكن عن جناية لحقتني، لا يساري ولا يميني رمتني، بل جناها أخ عليَّ كريم وعلى أهلها براقش تجني .
– القصة الثانية :
يقال أن براقش كانت امرأة لقمان بن عاد، وهو شخصية ورد ذكرها كثيرا في حكايات وقصص خرافية عربية، استخلفها زوجها، وكان لهم موضع إذا فزعوا دخُنوا فيه، فيجتمع الجند، وفي إحدى الليالي عبثت جواريها، فدُخن، فاجتمعوا فقيل لها : إن رددتيهم، ولم تستعمليهم في شيء، لم يأتك أحد مرة أخرى، فأمرتهّم فبنوا بناء فلما جاء لقمان، سأل عن البناء، فقيل له : على أهلها تجني براقش .
الفرق بين المثل وسواه من الأشكال التعبيرية :
المثل يقصد منه الاحتجاج والحقيقة فيه ناتجة عن تجربة، بينما الأقوال المأثورة تقر عموما واقعا معينا ولا تحوي معين ضمنيا، أما الحكمة فالمقصود منها التنبيه والإعلام والوعظ، وتحديد شرط سلوكي وقيمة أخلاقية، وقد تصدر عن رؤية حدسية دون تجريب واقعي، وهي تمتاز بطابع الإبداع الشخصي والعناية الأسلوبية المتعمدة .
ورغم أن المثل يكون أحيانا منشأه فردا، إلا أن الاستعمال والذيوع يطبعانه بطابع الجماعة، ويضم المثل عمقاً خاصاً لا تدركه الحكمة التي تفيد معنى واحدا بينما يفيد المثل معنيين : ظاهراً وباطناً، ويحمل ظاهره إشارة تاريخية إلى حادث معين كان سبب ظهوره، بينما الباطن يفيد معناه من حكمة وإرشاد وتشبيه وتصوير .
الأمثال الشعبية وقيمتها الأدبية :
أدرك البلاغيون العرب قيمة الأمثال الشعبية، وسبقوا غيرهم من ثقافات أخرى في الاهتمام بالشرح والتحليل لهذا الكنز اللغوي، وجمعوها في كتب الأمثال، منها مجمع الأمثال للميداني، المستقصى في أمثال العرب للزمخشري، جمهرة الأمثال للعسكري، وغيرها من الكتب .