قال الله تعالى : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ } [سورة الزخرف: 15-16]
تفسير ” وجعلوا له من عباده جزءًا ”
القول في تأويل قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبًا، وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. عن مجاهد في قول الله عز وجل: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } قال: ولدًا وبنات من الملائكة. وعن السدي قال: البنات. وقال آخرون: عنى بالجزء ها هنا ” العدل “.
وعن قتادة { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا }: أي عدلً وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: { أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ } [الزخرف:16] توبيخًا لهم على قولهم ذلك، فكان معلومًا أن توبيخه إياهم بذلك إنما هو عما أخبر عنهم من قيلهم ما قالوا في إضافة البنات إلى الله جل ثناؤه.
وعن الزجاج والمبرد: الجزء ها هنا البنات؛ عجب المؤمنين من جهلهم إذا أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله ثم جعلوا له شريكًا أو ولدًا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به؛ لأن هذا من صفات النقص. قال الماوردي: والجزء عند أهل العربية البنات؛ يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، قال الشاعر:
إن أجزأت المرأة يوما فلا عجب ** قد تجزئ الحرة المذكار أحيانًا
وقال الزمخشري: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث متحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه : أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا، وبيتًا: إن أجزأت حرة يوما فلا عجـب زوجتها من بنات الأوس مجزئة وإنما قوله: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } متصل بقوله: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } [الزخرف:87] أي ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به؛ وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءًا فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى { مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } أن قالوا الملائكة بنات الله؛ فجعلوهم جزءًا له وبعضًا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءًا له.
ويقول بن كثير يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما افتروه وكذبوه، في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم، وبعضها للّه تعالى، وكذلك جعلوا له من الأولاد أخسهما وأردأهما وهو البنات، كما قال تعالى: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [سورة النجم: 21-22]، وقال جلَّ وعلا ههنا: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ } ثم قال جلَّ وعلا: { أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ } ؟ وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار.
ثم ذكر تمام الإنكار فقال جلَّت عظمته: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [سورة الزخرف: 17] أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه للّه من البنات، يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من سوء ما بُشِّرَ به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك، يقول تبارك وتعالى: فكيف تأنفون أنتم من ذلك، وتنسبونه إلى اللّه عزَّ وجلَّ؟
ثم قال سبحانه وتعالى: { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [سورة الزخرف: 18] أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي، منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فهي عاجزة عَييِّة، أو من يكون هكذا ينسب إلى جناب اللّه العظيم؟ فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى، فيكمل نقص مظاهرها وصورتها بلبس الحلي، ليجبر ما فيها من نقص، وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت: (ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة).
وقوله: { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ } يقول تعالى ذكره : إن الإنسان لذو جحد لنعم ربه التي أنعمها عليه مبين، يبين كفرانه نعمه عليه، لمن تأمله بفكر قلبه، وتدبر حاله، قال الحسن : يعد المصائب وينسى النعم.