أمير المؤمنين المعتضد بالله يتعرض لموقف خطير مع قاتل ومجرم قام على تقطيع ضحيته ورميها في الماء، ولكنه يتمتع بالدهاء الذي يمكنه من تتبع خيوط الجريمة، حتى يكتشف الجاني فيقوم بالقبض عليه والحكم عليه بالموت جزاءً على فعلته، ولكن كيف توصل المعتضد إلى بداية الخيط هو ما سوف نعرفه من خلال السطور القادمة.
دهاء أمير المؤمنين ” المعتضد بالله “:
روي عن المعتضد بالله أن خادمًا من خدمه جائه يومًا فأخبره أنه كان قائمًا على شاطئ دجلة في دار الخليفة، فرأى صيادًا وقد طرح شبكته فثقلت بشيء فجذبها فأخرجها فإذا فيها جِراب “حقيبة أو كيس من الجلد” وأنه قدره مالاً فأخذه وفتحه، فإذا فيه آجر ” طين من التراب الأحمر” وبين الآجر كف خضوبة بحِنّاء، فأحضر الخادم الجراب والكف والآجر، فهال المعتضد ذلك وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة فوق الموضع وأسفله وما قاربه، ففعل فخرج جراب آخر فيه رجل، فأمر بإعادة الكرة، فلم يجدوا شيء آخر، فاغتم المعتضد وقال: معي في البلد من يقتل إنساناً ويقطع أعضاؤه ويفرقه ولا أعرف به ما هذا مُلك!!.
الجراب أول خيوط الجريمة:
أقام المعتضد يومه كله مغتمًا ما طعم طعاماً، فلما كان من الغد طلب أحد الخدم وهو ثقة له، وأعطاه الجراب فارغاً، وقال له: طف به على كل من يعمل الجراب ببغداد، فإذا عرفه منهم رجل فسله على من باعه؟ فإذا دلّكَ عليه فسلّ المشتري من اشتراه منه؟ ولا تقرّ على خبره أحداً، فغاب الرجل وجاءه بعد ثلاثة أيام، وقد عرف من القاتل فطلب منه المعتضد أن يروي تفاصيل البحث.
التعرف على مرتكب الجريمة:
يقول الخادم: أنه لم يزل يتطلب الدباغين، وأصحاب الجرب حتى عرف صانعه، وسأل عنه فذكر أنه باعه على عطّار بسوق يحيى “أحد أسواق بغداد”، وأنه مضى إلى العطار وعرضه عليه ، وما أن رآه العطار حتى قال: ويحك!!، كيف وقع هذا الجراب في يدك ؟!! فقلت: وهل تعرفه ؟ قال: نعم اشترى مني فلان الهاشمي منذ ثلاثة أيام عشرة جرب لا أدري لأي شيء أرادها وهذا منها. فقلت له: ومن فلان الهاشمي ؟!!
فقال: رجل من ولد علي بن ريطة من ولد المهدي يقال له: فلان عظيم، إلا أنه أشرُّ الناس وأظلمهم وأفسدهم وأشدّهم تشوّقا إلى المكائد والوقيعة بين المسلمين، وليس في الدنيا من ينهي خبره إلى المعتضد خوفًا من شرّه ولفرط تمكّنه.، يقول الخادم: ولم يزل يحدّثني وأنا أسمع أحاديث له قبيحة إلى أن قال: فحسبك أنه كان يعشق منذ سنين فلانة الجارية جارية فلانة، وكانت الجارية مثل الدينار المنقوش وكالقمر الطالع في غاية الحسن، فساوم مولاتها فيها، فلم تقاربه.
فلما كان منذ أيام بلغه أن سيدتها تريد بيعها لمشتر بذل فيها ألوف الدنانير، فطلب منها: أن ترسلها له لتودعه، فأنفذتها إليه بعد أن أنفذ إليها ثمنها مقابل ثلاثة أيّام، فلما انقضت الأيام الثلاثة غصبها عليها وغيّبها عنها، فما يعرف لها خبر، وادّعى الهاشمي أنها هربت من داره، وقالت الجيران: إنه قتلها، وقال قوم: لا بل هي عنده، وقد أقامت سيدتها عليها المأتم وجاءت وصاحت على بابه وسوّدت وجهها، فلم ينفعها بشيء.
فلما سمع المعتضد ما قاله الخادم سجد لله شكرًا على انكشاف الأمر له، وبعث في الحال رجاله للقبض على الهاشميّ وطلب بإحضار صاحبة الجارية وأخرج اليد والرجل إلى الهاشمي، فلما رآهما امتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف، فأمر المعتضد بدفع ثمن الجارية إلى مولاتها من بيت المال وصرفها، ثم حبس الهاشمي، فيقال : إنه قتله، ويقال : مات في الحبس.
المعتضد بالله:
هو الخليفة العباسي أبو العباس أحمد المعتضد بالله، عرف بالشجاعة والإقدام والبطش بالمفسدين، ألغيت في عهده الضرائب وأشاع بين رعيته العدل والرخاء، فأحبته الرعية، توفى في الثامن من ذي الحجة عام 289هـ، بعد إصابته بمرض شديد، مدحه ابن الرومي فقال فيه:
هنيئا بني العباس أن إمامكم *** إمام الهدى والبأس والجود أحمد
كما بأبي العباس أنشئ *** ملككم كذا بأبي العباس يتجدد