عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله صل الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صل الله عليه وسلم فقرئا، فحسن النبي صل الله عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صل الله عليه وسلم ما قد غسيني ضرب في صدري، ففضت عرقاً، وكأنما انظر إلي ربي عز وجل فرقاً، فقال لي: «يا أُبي أُرسِلَ إلي: أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هون علي أمتي، فرد إلي الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم! اغفر لأمتي، اللهم! اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم، حتى إبراهيم صل الله عليه وسلم».
شرح الحديث من فتح المنعم:
يقول جل شأنه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } [ المزمل: 5] فما أصعب قراءة القرآن وحفظه على الأميين وعلى أصحاب اللهجات المختلفة والألسنة غير العربية، لم يحصل في أمة من الأمم أن التزمت حفظ نص كتابها كما التزم المسلمون حفظ نص القرآن الكريم، وما أكبره وما أعظمه إذا قيس به غيره من كتب الأنبياء.
نعم فما أصعب الحفظ والنطق إذا لم يكن معه تيسير، وما أصعبه حين يأمر الله نبيه على لسان جبريل أن يأمر أمته أن يقرئوا القرآن على حرف واحد، فيشفق على أمته الرحيم بها فيرجو ربه أن ييسر على أمته وأن يهون عليها القراءة وأن ييسر لها مجال الالتزام، فيأتي التيسير بالتزام حرفين وتغييرين فيكرر رجاء لربه أن يهون أكثر حتى يأتيه التيسير في المرة الرابعة أن يقرئ أمته القرآن على سبعة أحرف.
ويقرئ الرسول صل الله عليه وسلم صحابته بحروف مختلفة، فيحفظ كل على ما أقرأه رسول الله صل الله عليه وسلم ويقرأ كل على ما حفظ، ويسمع بعضهم قراءة لم يعهدها ولم يقرئه رسول الله صل الله عليه وسلم إياها، ويمسك بعضهم ببعض مخطئا إياه ويرفع الأمر إلى رسول الله صل الله عليه وسلم، حدث هذا مع كثير من الصحابة، وأبرز وقائعه ما كان بين عمر وقارئ آخر، وما كان بين أبي بن كعب وقارئين آخرين.
ويسمع رسول الله صل الله عليه وسلم قراءة كل تخالف قراءة الآخر، ويستحسن كل ما سمع ويقول لكل منهم: هكذا أنزلت ويندهش عمر وأبي، وبسرعة يرفع رسول الله صل الله عليه وسلم هذه الدهشة، ويزيل من صدورهم ما يهجس به الشيطان، ويقول لهم: إن جبريل أقرأه القرآن على حرف واحد، فطلب من ربه التيسير على أمته فيسر القراءة على حرفين، فلم يزل يستزيده التيسير حتى أقرأه القرآن على سبعة أحرف، فأي حرف أقرأهم به صل الله عليه وسلم فهو صواب، وهو منزل من عند الله، ولا ينبغي عنده اختلاف.
وقد حددت مواطن الخلاف بإقراء الرسول صل الله عليه وسلم أصحابه، فأي حرف ثبت أخذه عمن أنزل عليه القرآن بالتواتر، ووافق ما أجمعت عليه الأمة من الرسم العثماني، فهو حق، وهو من عند الله الذي أنزل الكتاب وتولى حفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]
«فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية» في رواية للطبري: فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي، قال النووي: معناه وسوس لي الشيطان تكذيباً للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية، لأنه في الجاهلية كان غافلاً، أو متشككاً، فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب، قال القاضي عياض: معنى قوله سقط في نفسي أنه اعترته حيرة ودهشة، قال: وقوله: ولا إذ كنت في الجاهلية، معناه أن الشيطان نزع في نفسه تكذيباً لم يعتقده.
ما المقصود بالأحرف السبعة
المقصود بالأحرف السبعة التي ورد الحديث بها؛ أنها لغات سبع من لغات العرب؛ وأن القراءة التي يقرأ الناس بها اليوم، هي القراءة التي اعتمدها عثمان رضي الله عنه، وأمر زيد بن ثابت بجمعها، وإرسالها إلى أقطار المسلمين، وأجمع المسلمون عليها خلفًا عن سلف، واستقر العمل عليها فيما بعد.
لماذا لم ينـزل القرآن على حرف واحد
ذكر علماء القراءات العديد من الوجوه التي تبين الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف، وأضح تلك وأظهرها هي:
– التحدي والإعجاز والدلالة على حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى من التبديل والتحريف.
– دلالة قاطعة على أن القرآن الكريم ليس من قول البشر، بل هو كلام رب العالمين.
– نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف أتاح تعدد استنباط الأحكام الشرعية، ومسايرتها لظروف الزمان والمكان والتطور.
– بيان إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب.
– إظهار فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم.
– التخفيف عن الأمة والتيسير عليها.