ومن الإبداع ما خُلق بالجنون ، ومن الحب ما قتل السكون ، فقد يفقد المحب معظم عقله ويُبقي على بعضه ليهيم مبدعًا في الشوارع والطرقات ، إنها قصة الشاعر السوداني ادريس جماع المفتون بالنساء ، حتى انتهى به الأمر داخل مصحة نفسية ، وقد أشاد به العديد من الأدباء ؛ حيث أنه أبدع من فرط عشقه وجنونه ، ليصبح شاعر الجمال في السودان التي أنجبت عظماء في الأدب سواء في المجال الشعري أو الروايات والقصص ؛ فهناك روايات سودانية مميزة جدًا مثلما توجد قصائد تسلب العقل مثل قصيدة “أنت السماء” للشاعر إدريس جماع.
من هو إدريس جماع
هو إدريس محمد جماع المولود بمدينة حلفاية الملوك بالسودان عام 1922م ، وقد سافر إلى مصر لإتمام دراسته ؛ حيث حصل على ليسانس لغة عربية من كلية دار العلوم ، وكان مفتونًا بجمال النيل لدرجة جعلته يحصل على لقب “ابن النيل” ، وقد عاد إلى بلاده بعد رحلة التعليم ليعمل مدرسًا في معهد التربية الواقع بمدنية شندي شمال الخرطوم ؛ لينتقل فيما بعد بين المعاهد المختلفة ، وقد اشتهر بأنه الشاعر الذي فقد عقله بعد وقوعه في قصة حب فاشلة حيث قضى حياته بين جدران مصحة نفسية.
كان إدريس يهيم الشوارع والطرقات تائهًا بعد فشله في قصة حبه، ولم يسر هذا الأمر أهله وذويه ؛ مما جعلهم يتجهون لعلاجه بالخارج ، وأثناء تواجده بالمطار وقع بصره على امرأة كانت برفقة زوجها ؛ فلم يستطع أن يغض النظر عنها من فرط إعجابه بها ، وهو الأمر الذي دفع الزوج لمنعه من التمادي في تلك النظرات ، وعلى إثر ذلك أنشد إدريس قصيدة “أنت السماء” ، وتوفي خلال عام 1980م.
أعمال إدريس جماع
جمعت أشعار إدريس جماع ما بين الوطني والرومانسي ؛ غير أن قضية الحب والجمال قد أخذت حيزًا كبيرًا من أعماله التي فاضت بالمعاني الساحرة التي تميزت بقوة التعبير وعمقه ، وكان يعارض الاستعمار في الأعمال الوطنية التي قدمها ، وارتبطت أعماله بالسودان والأمة العربية الإسلامية ؛ حيث دارت أشعاره حول قضايا مصر والجزائر وفلسطين ، ومن أبرز قصائده “أنت السماء ؛ الطفولة ؛ نضال لا ينتهي ؛ ضمير له حدود ؛ رحلة النيل ؛ نحو القمة ؛ نغمات الطبيعة ؛ ديوان لحظات باقية”.
وقد تحدث عنه كبار الكتاب والنقاد في الوطن العربي ، ومنهم الكاتب محمد حجازي مدثر الذي تحدث عنه في كتاب تحت عنوان “جماع قيثارة النبوغ” ، كما قام الباحث عبدالقادر الشيخ إدريس بإعداد رسالة الدكتوراه القائم عليها عن أشعار إدريس جماع ؛ وجاءت الرسالة بعنوان “الشاعر السوداني إدريس جماع.. حياته وشعره” ، وذكره كذلك الدكتور عبده بدوي في كتابه “الشعر الحديث في السودان” ؛ حيث قال عنه بأنه شاعر متدفق بالمشاعر الإنسانية.
قصيدة أنت السماء
أعلى الجمال تغار منا
ماذا عليك إذا نظرنا
هى نظرةً تنسى الوقارَ
وتسعدُ الروحَ المعنىّ
دنياى أنت وفرحتى
ومنى الفؤادِ إذا تَمَنىّ
أنتَ السماءُ بدتْ لنا
واستعصمتْ بالبعدِ عنا
هلاَّ رحمتَ متيمًا
عصفت به الأشواق وهنا
وهفت به الذكرى فطاف
مع الدجى مغنى فمغنى
هزته منك محاسن
غنى بها لمّا تغنَّى
يا شعلةً طافتْ
خواطرنا حَوَالَيْها وطفنا
أنست فيكَ قداسةً
ولمستُ إشراقاً وفناً
ونظرتُ في عينيكِ
آفاقاً وأسـراراً ومعنى
كلّمْ عهوداً فى الصبا
أسألْ عهوداً كيف كُنا
كمْ باللقا سمحتْ لنا
كمْ بالطهارةِ ظللتنا
ذهبَ الصبا بعُهودِهِ
ليتَ الطِفُوْلةَ عاودتنا.