عرف الحجاج بن يوسف بقوة شكيمته وشدته مع جميع الرعية حتى أن الناس كانت تهابه وتخاف منه خاصةً في نوبات غضبه التي كان لا يتنازل فيها عن حصد الرقاب لذلك كانت الرعية غالبًا ما تلتزم بأوامره وتبتعد عن نواهيه وفي أحد الأيام أصدر الحجاج أمرًا أن يلتزم الجميع منازلهم بعد صلاة العشاء وأن لا يتجول أحد في الشارع وإلا قطعت رقبته.
شوارع خالية بعد صلاة العشاء
وعندما حان الليل وانتهى الناس من صلاة العشاء عاد كل منهم إلى يته وانتشر الحراس في الشوارع ليتأكدوا من تنفيذ أوامر الحجاج وخلوها من الناس، وينما أحدهم كذلك حتى قابل ثلاثة من الغلمان يترنحون في الشارع على أثر السكرة، كانوا جميعهم مخمورين وبينما هم يترنحون حتى أشهر الحارس السيف في وجوههم قائلًا لهم: من أنتم حتى تقوموا بمخالفة الأمير؟
فصاحة وبيان
لكن لم يبدوا على أي من الثلاثة أي خوف أو ارتعاب من رؤيتهم للسيف فأجاب الأول: أنا ابن من دانت الرقاب له، ما بين مخزومها وهاشمها، تأتي إليه الرقاب صاغرة، يأخذ من مالها ومن دمها، وهنا أنزل الحارس سيفه بعد أن كان مشهره فالصبي واثق من نفسه ويبدو عليه أنه أحد أقارب أمير المؤمنين.
فنظر الحارس للشاب الثاني الذي لم ينتظر أن يسأله الحارس ولم يكن أقل فصاحة من صديقه فقال: أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره . وإن نزلت يومًا فسوف تعود. ترى الناس أفواجًا على ضوء ناره. فمنهم قيام حولها وقعود، وهنا شعر الحارس أنه أمام ورطة فقد يكون الفتى ابن أحد أشراف القوم.
فنظر إلى الثالث الذي أجاب وهو يبتسم من رؤيته للحارس وقد اكفهر وجهه فقال: أما أنا إذا كنت ترغب أن تعرف من أكون فأنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه. وقومّها بالسيف حتى استقامت. ركاباه لا تنفك رجلاه منهما، إذا الخيل في يوم الكريهة ولّت، وهنا أيقن الحارس أن الفتى ابن أحد فرسان العرب وشجعانها. وأنه قد وقع في ورطة كبيرة.
الحجاج في مواجهة الغلمان الثلاثة
قام الحارس بالتحفظ على الثلاث غلمان حتى يعرضهم على الحجاج لينظر في أمرهم وفي الصباح وقف الحارس أمام الحجاج وحكى له ما كان من أمر البارحة، فأمر الحجاج بإحضار الثلاثة، وعندما حضروا بين يديه سألهم فقال للأول: أنت من أباك؟ فقال: أنا ابن الحجام، فاندهش الحجاج وأعاد السؤال على الثاني: فقال الفتى: أنا ابن الفوال، أما الثالث: فقال: أنا ابن الحائك.
وهنا نظر الحجاج إلى الحارس وهو يضحك من مكر الثلاثة الذين استطاعوا الفرار من السيف بقوة فصاحتهم، ثم عفا عنهم وتركهم ينصرفوا، ثم شاح ببصره إلى جميع الجالسين في مجلسه من الوزراء وعلية القوم قائلًا لهم: علموا أولادكم الأدب ؛ فوالله لولا فصاحتهم لضُربت أعناقهم.