لقد اهتم القرآن الكريم بسرد قصص السابقين وأحوالهم لما تقدمه تلك القصص من عبر وعظات تستنير بها العقول، وتسير بهديها القلوب، ومن تلك القصص العظيمة التي سردها القرآن قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام والتي سنتعرف عليها بالتفصيل.
من هو سيدنا موسى
هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو كليم الله؛ النبي الذي اختصه الله بالرسالة، فنزل بالتوراة في بني اسرائيل. ولد سيدنا موسى في العهد الذي كان يقتل فيه فرعون كل ذكر يولد، فألقته أمه يوخابد في اليم خوفًا عليه من القتل، فشاء الله أن يرسو أمام قصر الفرعون وأن ينشأ في كنفه، حتى كلفه الله بالرسالة وأخذ يدعو فرعون وقومه لعبادة الواحد الأحد.
قصة سيدنا موسى والخضر
في يوم من الأيام وبينما كان سيدنا موسى عليه السلام يخطب في بني إسرائيل زرفت عيونهم ووجلت قلوبهم، ثم قام أحدهم فسأل سيدنا موسى عليه السلام قائلًا: يا موسى هل هناك من هو أعلم منك في الأرضِ اليوم؟ ولأن سيدنا موسي ظن أنه هو الوحيد النبي المُرسل في الأرض والذي يكلمه الله عز وجل، قال لا أعلم أحدًا في الأرض أعلم مني، فعاتبه الله جل وعلى وقال له إن هناك عبدًا من عبيدي أوتي علمًا لا تعلمه أنت يا موسى.
فطلب سيدنا موسى من الله عز وجل أن يُريه هذا الرجل، لكي يتعلم منه ويتدارس معه، فأخبره الله عز وجل بأنه ليس في أرضك إنه في مكان يسمى ملتقى البحرين أو مجمع البحرين، فاذهب إليه، فقال سيدنا موسى لله عز وجل: كيف أعرفه؟ فقال الله عز وجل خذ معك نونا ميتًا “أي حوتًا ميتًا” (ويقصد به السمك في اللغة العربية)، فإذ أرجعت فيها الروح وتحركت ففي هذا المكان سترى هذا الرجل، ولما سأل سيدنا موسى عن اسمه أخبره المولى عز وجل أن اسمه الخضر.
فأخذ موسي عليه السلام فتاه وهو “يوشع ابن نون”، ووضع معه مكتل (وهو شيء مثل الإناء أو الكيس) يحمله، ووضع بداخله السمكة الميتة، ومشى موسى عليه السلام في اتجاه ملتقى البحرين؛ من أجل أن يتعلم العلم الذي يعلَمهُ هذا العبد الصالح “الخضر”، فيالا عظمة هذا النبي الذي يسافر من أجل طلب العلم، فتلك همة الأنبياء في الاجتهاد في العلم، ولا عجب أن الله سبحانه وتعالى يرفع به درجات يوم القيامة.
سافر سيدنا موسي مع فتاه “يوشع بن نون” فترة طويلة، إلى أن أرهقهم التعب فوصلا لمكانٍ مكثوا فيه ليرتاحوا، فقال سيدنا موسى لفتاه ” بسم الله الرحمن الرحيم ” {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (سورة الكهف، الآية 60). وكان النبي الكريم يقصد بقوله أنه على استعداد للمضي سنوات، ولكن المهم أن يصل لهذا الرجل.
لقاء سيدنا موسى مع الخضر
لما بلغ سيدنا موسى عليه السلام وفتاه يوشع بن نون مجمع البحرين، نام سيدنا موسى عليه السلام، ولكن يوشع كان مستيقظ ورأى فجأة المكتل يهتز، فاهتز وخاف فقد عادت الحياة للسمكة التي تحركت بدورها ثم خرجت من المكتل إلى البحر مباشرةً، كما في قوله: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} (سورة الكهف، الآية 61).
وهنا لم يوقظ يوشع سيدنا موسى عليه السلام، وبعد فترة عندما استيقظ سيدنا موسى نسي يوشع أن يخبره عن أمر السمكة، ولما قال سيدنا موسى ليوشع أحضر لنا الغذاء فلقد تعبنا من هذا السفر، تذكر يوشع ما حدث للسمكة وهنا أخبر سيدنا موسى بما حدث لها عند الصخرة، وقال له نسيت أن أخبرك وما أنساني إلا الشيطان، فلم يعاتبه سيدنا موسى على نسيانه، وهذا هو خلق الأنبياء.
ثم إرتد الإثنان عائدين يقتفوا الأثر حيث مشوا وعبروا الأماكن طيلة يومٍ كامل، وعندما وصل سيدنا موسى إلى المكان الذي تحركت فيه السمكة عند الصخرة، تعجب فقد تغير المكان عما كان، وأصبح به زرع أخضر والعجيب أنه لم يكن به هذا من قبل، وزاد تعجب النبي الكريم أكثر وأكثر عندما وجد هناك الرجل العابد الذي يدعى الخضر، والذي كلما مر بأرض تخضر وحدها، ولهذا سُمي بالخضر.
ولما وجده سيدنا موسى كما جاء في قوله تعالى: { فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا علمًا}(سورة الكهف، 65)، بدأت قصة سيدنا موسى والخضر ودار بينهما هذا الحوار : سلّم سيدنا موسى عليه وقال له: السلام عليكم، فرد الخضر على سيدنا موسى، ثم قال له وهل بأرضي سلام؟ ثم قال من أنت؟ قال: أنا موسى، قال الخضر: أنت موسى بني إسرائيل، فقال سيدنا موسى: نعم. قال الخضر: وما تريد؟ قال سيدنا موسى: أريد أن أتعلم.
فقال الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}(سورة الكهف، الآية67)، فقال له سيدنا موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(سورة الكهف، الآية69). فقال له الخضر عليه السلام: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا الكهف}(الآية :70)؛ أي لا تجادلني.
قصة خرق السفينة
ثم انطلقا معًا نحو شاطئ ينتظران سفينة تنقلهم، فدعاهم أصحاب السفينة أن يركبا بدون أجر، فركب سيدنا موسى والخضر وحدث العجب في تلك الرحلة، فأثناء حديثهما جاء عصفور ونثر من ماء البحر نثرة، فقال الخضر: “يا موسى إن مثل علمي وعلمك بجانب علم الله كمثل الماء الذي أخذه هذا العصفور بمنقاره.
ثم فجأة أخذ الخضر فأسًا وحفر به السفينة، فتعجب سيدنا موسى قائلًا له: ماذا تصنع أتريد أن تُغرق السفينة وتُغرق الناس الذين أكرمونا، فقال الخضر عليه السلام: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}(سورة الكهف، الآية72). هنا قال سيدنا موسى كما في قوله: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}(سورة الكهف، الآية 73 ).
قصة قتل الصبي
ثم انطلقا بعد ذلك نحو الشاطئ؛ حيث وجدا صبيانًا يلعبون فإذا بالخضر يتابع صبي يلعب بين الصبيان، ثم إذ فجأة يُمسكه الخضر ويأخذه نحو زاوية ويذبحه بالسكين. وهنا يتعجب سيدنا موسى ويستنكر ما حدث: {فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا}(سورة الكهف، الآية 74)؛ أي هذا شيءٌ منكر، فكيف تقتل صبيًا بغير حق! فقال له الخضر عليه السلام كما ورد في محكم التنزيل: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}(سورة الكهف، الآية 75)، هنا قال سيدنا موسى: إن سألتك عن شيء بعد ذلك فلا تصاحبني.
قصة بناء الجدار
ثم مشى الاثنان حتى وصلا إلى قرية أهلها لئام وبخلاء، وكانوا جوعا ولم يضيفهما أحد، ثم جلس سيدنا موسى والخضر نحو جدار، وعندما رآه الخضر يوشك أن يسقط قال الخضر لسيدنا موسى ساعدني، فقام وبنى الجدار معه مرة أخرى. ولكن سيدنا موسى تعجب من فعلة الخضر وقال له: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}(سورة الكهف، الأية 77)، فأهل هذه القرية بخلاء ولم يطعمونا؛ لذا كان من الممكن أن تطلب أجرًا لما صنعت. هنا كانت نهاية قصية سيدنا موسى والخضر حيث قال الخضر عليه السلام: {قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}(سورة الكهف، الآية 78).
السبب وراء ما فعله الخضر
وهنا كانت لحظة الفراق، وفي نهاية رحلة سيدنا موسى والخضر أخبره الخضر بما لم يستطع أن يصبر عليه؛ فقال له أما السفينة التي خرقتها لأنه كان هناك ملك ظالم يأخذ أي سفينة ليس بها عيب غصبًا، فأردت أن أعيبها لكي لا يأخذها وتلك رحمة من الله. أما الغلام فكان أبواه مؤمنين، وكان هذا الصبي سيكفر وسيعذبهما وكان من الممكن أن يجعلهما يكفران مثله، لذا عندما يموت وهو صغير فليس عليه عذاب، وسيتعذب الأبوان فترة ولكن هذا أفضل من أن يكبر ويكفر.
أما عن قصة الجدار، قال الخضر لموسى عليه السلام أن هذا الجدار كان لرجل صالح بالمدينة، وكان له كنز وكان له ولدين يتيمين صغار، وعلم أنه لو مات وبقيت الأموال سيصادرها أهل القرية اللئام البخلاء، وقد أرسلنا الله لكي نحفظ لهما الكنز كرامةً لأبيهما الصالح كما جاء في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}(سورة الكهف، الآية 82). وهكذا يضرب لنا الله من خلال قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام أروع الأمثلة على قدرة الله وسعة علمه، فمهما وصل البشر من العلم لن يصلوا لجزء ولو قليل من علم الله عز وجل.