حيث أن «أصول الفقه» مركب من جزئين والجزء الثاني هو: «الفقه»، ومعناه في اللغة الفهم. وبالمعنى الشرعي هو: «معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد»، كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، وأن الوتر مندوب، وأن النية من الليل شرط في صوم رمضان، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي، وغير واجبة في الحلي المباح، وأن القتل بمثقل يوجب القصاص، ونحو ذلك من مسائل الخلاف، بخلاف ما ليس طريقه الاجتهاد، كالعلم بأن الصلوات الخمس واجبة، وأن الزنا حرام، وغير ذلك من المسائل القطعية فلا يسمى فقها، فالمعرفة هنا العلم بمعنى الظن.والْفِقْهُ في اللغة: الْفَهْمُ للشيء والعلم به، وفهم الأحكام الدقيقة والمسائل الغامضة، وهو في الأصل مطلق الفهم، وغلب استعماله في العرف مخصوصا بـعلم الشريعة؛ لشرفها على سائر العلوم، وتخصيص اسم الفقه بهذا الاصطلاح حادث، واسم الفقه يعم جميع الشريعة التي من جملتها ما يتوصل به إلى معرفة الله ووحدانيته وتقديسه وسائر صفاته، وإلى معرفة أنبيائه ورسله عليهم السلام، ومنها علم الأحوال والأخلاق والآداب والقيام بحق العبودية وغير ذلك.قال بدر الدين الزركشي: «وذكر الإمام الغزالي أن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى ودلائلها وعللها» واسم الفقه في العصر الأول كان يطلق على: «علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستلاب الخوف على القلب».وعرفه أبو حنيفة بأنه: «معرفة النفس مالها وما عليها»وعموم هذا التعريف كان ملائماً لعصر أبي حنيفة الذي لم يكن الفقه فيه قد استقل عن غيره من العلوم الشرعية. وعرف الشافعي الفقه بالتعريف المشهور بعده عند العلماء بأنه: «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية».وفي اصطلاح علماء أصول الفقه: «العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية». ويسمي في اصطلاح المتأخرين علم الفقه ويطلق في العصور المتأخرة من التاريخ الإسلامي مخصوصا بالفروع، وهو أحد أنواع العلوم الشرعية، وهو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمدة من أدلتها التفصيلية. والفقيه العالم بالفقه، وعند علماء أصول الفقه هو المجتهد.
المعنى اللغوي
الفِقْه بالمعنى اللغوي الْفَهْمُ، وأصله بالكسر والفعل فَقِهَ يَفْقَهُ بكسر القاف في الماضي وفتحها في المضارع، يقال: فَقِهَ الرجل أي: فهم، والمصدر فِقْهًا، وفلان لا يَفْقَهُ وَلَا يَنْقَه، مادته: (فِ قْ هـ)، وهو في الأصل لمعنى: مطلق الْفَهْمُ، من فَقِهَ -بكسر الوسط- يقال: فَقِهَ الرجل فِقْهًا، وأَفْقَهْتُهُ الشيء، هذا أصله، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فَقِيهٌ، وقد فقه من باب ظرف أي: صار فقيها. وفَقَّهه الله تفقيها، وتفَقَّه إذا تعاطى ذلك، وفاقهه باحثه في العلم. قال ابن حجر: «يقال: فَقُهَ بالضم إذا صار الفقه له سجية، وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفَقِهَ بالكسر إذا فهم». وكلمة «فِقْه» في اللغة مصدر ماضيه في الأصل فَقِهَ -بكسر القاف- بمعنى: فَهْمُ الشي والعلم به مطلقا، أو مخصوصا بفهم الأشياء الغامضة والمسائل الدقيقة، ثم نقل لفظ «فقه» من معناه اللغوي بغلبة الاستعمال في العرف إلى معنى العلم بالدين. قال ابن منظور: «وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم كما غلب النجم على الثريا والعود على المندل».قال ابن الأثير: «واشتقاقه من الشق والفتح، وقد جعله العرف خاصا بـعلم الشريعة، -شرفها الله تعالى-، وتخصيصا بـعلم الفروع منها».قال ابن منظور: «والفقه في الأصل الفهم، يقال: أوتي فلان فقها في الدين أي فهما فيه. قال الله عز وجل: ﴿ليتفقهوا في الدين﴾ أي: ليكونوا علماء به، وفقهه الله، ودعا النبي لابن عباس فقال: «اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل» أي: فهمه تأويله ومعناه، فاستجاب الله دعاءه وكان من أعلم الناس في زمانه بكتاب الله تعالى». وقال ابن سيده: «وفقه عنه بالكسر: فهم، ويقال: فقه فلان عني ما بينت له يفقه فقها إذا فهمه». والفقه بمعنى: العلم بالشّيء، والفهم له، والفطنة فيه، وغلب على علم الدين لشرفه، وما ذكر في القرآن حكاية ما قاله قوم النبي شعيب، في قول الله تعالى: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ﴾؛ فهو بمعنى: عدم الفهم مطلقا. وقيل: هو عبارة عن كلّ معلوم تيقّنه العالم عن فكر.
وخصه حملة الشرع بضرب من العلوم، ونقل ابن السمعاني عن ابن فارس: أنه إدراك علم الشيء، وقال الجوهري وغيره: هو الفهم، وقال الراغب هو التوسل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم. وفسر الفهم بمعرفة الشيء بالقلب، والعلم به، يقال: فهمت الشيء عقلته وعرفته، وفهمت الشيء فهما علمته، فلا يقصد فهم المعنى من اللفظ، ولا فهم غرض المتكلم، وقال أبو إسحاق وصاحب اللباب من الحنفية: «فهم الأشياء الدقيقة، فلا يقال: فقهت أن السماء فوقنا». قال القرافي: وهذا أولى؛ ولهذا خصصوا اسم الفقه بالعلوم النظرية، فيشترط كونه في مظنة الخفاء، فلا يحسن أن يقال: فهمت أن الإثنين أكثر من الواحد، ومن ثم لم يسم العالم بما هو من ضروريات الأحكام الشرعية فقيها. والفقه اللغوي مكسور القاف في الماضي والاصطلاحي مضمومها فيه.قال: فقه -بالكسر- فهو فاقه إذا فهم، وفقه -بالفتح- فهو فاقه أيضا إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه -بالضم- فهو فقيه إذا صار الفقه له سجية. ونقل الفقه إلى علم الفروع بغلبة الاستعمال كما أشار إليه ابن سيده بقوله: «غلب على علم الدين لسيادته وشرفه كالنجم على الثريا، والعود على المندل».
بالمعنى الاصطلاحي
الفقه في اصطلاح علماء أصول الفقه هو: «العلم بالأحكام الشّرعيّة العمليّة المكتسب من أدلّتها التّفصيلة». وعرفه أبو إسحاق الشيرازي بأنه: «معرفة الأحكام الشرعية التى طريقها الاجتهاد»، أو هو: «علم كل حكم شرعي بالاجتهاد»، أو «العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال»، أو من طريق أدلتها التفصيلية، وفق أصول فقهية سليمة، واستدلالات منهجية، يتوصل منها إلى معرفة الأحكام الشرعية، المكتسبة من الأدلة التفصيلية.ومعنى العلم بالأحكام الشرعية أي: «المستنبطة بطريق الاجتهاد»، أو «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة التفصيلية». والفقه بالمعنى الاصطلاحي يطلق على العلم المسمى بـ(علم فروع الفقه). فالعلم بالذوات من أجسام وصفات وسواها ليس فقها؛ لأنه ليس علم أحكام. والعلم بالأحكام العقلية والحسية والوضعية كأحكام الحساب والنحو والصرف لا يسمى فقها؛ لأنه علم أحكام ليست بشرعية، وعلم أحكام أصول الدين وأصول الفقه ليس فقها، لأنها أحكام شرعية علمية وليست عملية، وعلم المقلد بالأحكام الشرعية العملية لا يسمى فقها؛ لأنه علم ليس عن استدلال، وما هو معلوم بالضرورة لا يسمى فقها؛ لأنه من غير استدلال. فهو: «العلم الحاصل بالاجتهاد»، والفقيه لا يطلق إلا على المجتهد. قال العمريطي في منظومته على الورقات لإمام الحرمين:
والفقه علم كل حكم شرعي |
|
جاء اجتهادا دون نص قطعي. |
والفقه في اصطلاح الفقهاء هو: «استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها»، أو هو كما حكاه البغوي في تعليقه نقلا عن القاضي حسين حيث قال: الفقه افتتاح علم الحوادث على الإنسان، أو افتتاح شعب أحكام الحوادث على الإنسان. وقال ابن سراقة: حده في الشرع: عبارة عن اعتقاد علم الفروع في الشرع، ولذلك لا يقال في صفاته سبحانه وتعالى: فقيه. قال: وحقيقة الفقه عندي: الاستنباط، قال الله تعالى: ﴿لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾، واختيار ابن السمعاني في القواطع أنه استنباط حكم المشكل من الواضح، قال: «وقوله : «رب حامل فقه غير فقيه» أي: غير مستنبط ومعناه: أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلال واستنباط فيها»، وقال في ديباجة كتابه: وما أشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر فطنته استخرج درا، وغيره مستخرج آجرا.ويؤخذ من تعريفهم الفقه بأنه (استنباط الأحكام): أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه في اصطلاح الفقهاء، وأن حافظها ليس بفقيه، وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح المستصفى، قال: وإنما هي نتائج الفقه، والعارف بها فروعي، وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة، فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها، ونحوه قول ابن عبد السلام: هم نقلة فقه لا فقهاء. وفي اصطلاح علماء الفروع هو: «العلم بالأحكام الشرعية العملية الناشئة عن الاجتهاد». أو هو حفظ أو معرفة مجموعة من الأحكام الشرعية العملية الواردة بالكتاب والسنة وما استنبط منها، سواء كان مع أدلتها أو بغير الأدلة، أو هو: معرفة الأحكام الشرعية العملية التي نزل بها الوحى، قطعية كانت أو ظنية، وما استنبطه المجتهدون.
علم فروع الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المتعلقة بأفعال العباد في عباداتهم أو في معاملاتهم وعلاقتهم الأسرية وجناياتهم والعلاقات بين المسلمين بعضهم البعض، وبينهم وبين غيرهم، في السلم والحرب، وغير ذلك. والحكم على تلك الأفعال بأنها واجبة، أو محرمة، أو مندوبة، أو مكروهة، أو مباحة، وأنها صحيحية أو فاسدة، أو غير ذلك؛ بناء على الأدلة التفصيلية الواردة في الكتاب والسنة وسائر الأدلة المعتبرة.
الفرق بين الفقه وبين أصول الفقه عند علماء الأصول هو: أن أصول الفقه هي: الأدلة الإجمالية الموصلة للفقه، والفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة. وعلم فروع الفقه هو: أيضاً العلم بالدليل الشرعي التفصيلي، من الكتاب أو السنة أو غيرهما، لكل مسألة من المسائل. والفرق بين الفقه والعلم: أن الفقه بالمعنى الشرعي أخص من العلم لصدق العلم بالنحو وغيره، فكل فقه علم، وليس كل علم فقها.