يُراد بالأطفال كل من مات قبل البلوغ ولم يدرك التكليف. فأما أولاد المسلمين ، فالصحيح: أنهم في الجنة مع آبائهم، وينتظرونهم عند أبواب الجنة، ويقال في الدعاء له عند موته في الصلاة عليه: اللهم اجعله ذخرا لوالديه وفرطا وأجرا وشفيعا مجابا، اللهم ثقل به موازينهما إلخ... وقد ذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" أن القاضي أبا يعلى حكى عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، وقد يستدل على ذلك بقوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" فأما أولاد المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ وآباؤهم كفَّار، ففيهم خلاف طويل، وقد تكلم عليهم ابن القيم في طريق الهجرتين في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين، فذكر فيهم ثمانية أقوال
احاديث وردت في حكم من مات من أطفال المشركين
يقول ابن كثير في مؤلفته الخالدة تفسير القرآن العظيم: قد اختلف الأئمة رحمهم اللّه تعالى في هذه المسألة قديماً وحديثاً، وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ماذا حكمهم! وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته، وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون اللّه وتوفيقه، ثم نذكر فصلاً ملخصاً من كلام الأئمة في ذلك واللّه المستعان.
الحديث الأول
رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفطرة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم لِيُطِيعُنَّه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت برداً وسلاماً»
الحديث الثاني
عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال: سئل رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم عن أطفال المسلمين، قال: «هم مع آبائهم»، وسئل عن أولاد المشركين فقال: «هم مع آبائهم»، فقيل: يا رسول اللّه ما يعملون؟ قال: اللّه أعلم بهم» [أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي].
الحديث الثالث
عن ثوبان أن النبي صل اللّه عليه وسلم عظَّم شأن المسألة قال: «إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولاً، ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون: نعم، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظاً وزفيراً، فرجعوا إلى ربهم، فيقولون: ربنا أخرجنا أو أجرنا منها، فيقول لهم: ألم تزعموا أني إذا أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم، فيقول: اعمدوا إليها فادخلوها، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا، وقالوا: ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول: ادخلوها داخرين»، فقال نبي اللّه صل اللّه عليه وسلم: «لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً» [أخرجه الحافظ البزار في مسنده].
الحديث الرابع
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»، وفي رواية قالوا: يا رسول اللّه أفرأيت من يموت صغيراً، قال: «اللّه أعلم بما كانوا عاملين»، وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صل اللّه عليه وسلم قال: «ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم عن اللّه عزَّ وجلَّ أنه قال: «إني خلقت عبادي حنفاء»
الحديث الخامس
عن سمرة رضي اللّه عنه عن النبي صل اللّه عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة»، فناداه الناس: يا رسول اللّه وأولاد المشركين، قال: «وأولاد المشركين» [رواه الحافظ البرقاني في المستخرج على البخاري]. وقال الطبراني عن أبي رجاء عن سمرة قال: سألنا رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال: «هم خدم أهل الجنة»
الحديث السادس
عن خنساء بنت معاوية، من بني صريم قالت: حدّثني عمي قال، قلت: يا رسول اللّه من في الجنة؟ قال: «النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة» [أخرجه الإمام أحمد].
آراء العلماء في هذه المسألة
يقول ابن كثير من العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث «النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة» [أخرجه الإمام أحمد]، ومنهم من جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان، فقال له جبريل: هذا إبراهيم عليه السلام وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين، قالوا: يا رسول اللّه وأولاد المشركين؟ قال: «نعم، وأولاد المشركين».
ومنهم من جزم لهم بالنار، لقوله عليه السلام: «هم مع آبائهم» ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم اللّه فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخراً وانكشف علم اللّه فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض.
وهذا القول الذي حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن أهل السنّة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في “كتاب الاعتقاد” وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكر الشيخ ابن عبد البر أن أحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة، وأهل العلم ينكرونها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء فكيف يكلفون دخول النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، واللّه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
والجواب عما قال: إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، و منها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها.
وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنّة والجماعة من امتحان الأطفال. وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم:42]. وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون للّه يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه. وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها، أن اللّه يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول اللّه تعالى: «يا ابن آدم ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة».
وأما قوله: «فكيف يكلفهم اللّه دخول النار وليس ذلك في وسعهم» فليس هذا بمانع من صحة الحديث فإن اللّه يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
الملخص في أقوال العلماء
يقول ابن كثير: وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء أنهم من أهل الجنة، وهذا هو المشهور بين الناس وهو الذي نقطع به إن شاء اللّه عزَّ وجلَّ، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال:
القول الأول
أنهم في الجنة، واحتجوا بحديث سمرة أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين.
القول الثاني
أنهم مع آبائهم في النار: واستدل عليه بما روي عن عبد اللّه بن أبي قيس، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «هم تبع لآبائهم» فقلت: يا رسول اللّه بلا أعمال؟ فقال: «اللّه أعلم بما كانوا عاملين» [أخرجه الإمام أحمد].
القول الثالث
التوقف فيهم، واعتمدوا على قوله صل اللّه عليه وسلم: «اللّه أعلم بما كانوا عاملين» وهو في الصحيحين، ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف، وهذا القول يرجع إلى من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة، لأن الأعراف ليس دار قرار، ومآل أهلها إلى الجنة، واللّه أعلم.