الشاعر المصري القدير ” أمل دنقل” هو صاحب الوجه الأسمر والملامح الهادئة والعينين الوديعتين، شق طريقه في الشعر والأدب حتى تميز عن أبناء جيله، فيتعامل مع الكلمات بشاعرية حتى يختار أدقها والتي تصل إلى قلب القارئ والمستمع، فهو من ضمن الشعراء العرب الذي لا يمكن نسيانهم ولا نسي أعمالهم الأدبية العظيمة التي ساهمت في تغيير الموروث الثقافي عند الجماهير وجعلتهم يتطلعون إلى الكثير من الأمور التي قد تناولها الشاعر خاصة فيما يتعلق بالأشعار الوطنية، فقد ولد الشاعر أمل دنقل في عام 1940 وتوفي في عام 1983 وله الكثير من القصائد والدواوين التي حكت بصدق عن مدى شاعرية أمل دنقل الذي رحل عن عالمنا وهو لم يتجاوز عمره ال 43 عاما ولكنه ترك ما يخلد ذكراه
قصيدة حمامة
حمامة
حين سَرَتْ في الشارعِ الضَّوضاءْ
واندفَعَتْ سيارةٌ مَجنونةُ السَّائقْ
تطلقُ صوتَ بُوقِها الزاعقْ
في كبدِ الأَشياءْ:
تَفَزَّعَتْ حمامةٌ بيضاءْ
(كانت على تمثالِ نهضةِ مصرْ..
تَحْلُمُ في استِرخاءْ)
طارتْ وحطَّتْ فوقَ قُبَّةِ الجامعةِ النُّحاسْ
لاهثةً تلتقط الأَنفاسْ
وفجأةً: دندنتِ الساعه ودقتِ الأجراسْ
فحلَّقتْ في الأُفْقِ.. مُرتاعهْ!
أيتُها الحمامةُ التي استقرَّتْ
فوقَ رأسِ الجسرْ
(وعندما أدارَ شُرطيُّ المرورِ يَدَهُ..
ظنتُه ناطوراً.. يصدُّ الطَّيرْ
فامتَلأتْ رعباً!)
أيتها الحمامةُ التَّعبى:
دُوري على قِبابِ هذه المدينةِ الحزينهْ
وأنشِدي للموتِ فيها.. والأسى.. والذُّعرْ
حتى نرى عندَ قُدومِ الفجرْ
جناحَكِ المُلقى..
على قاعدةِ التّمثالِ في المدينهْ
.. وتعرفين راحةَ السَّكينهْ!
قصيدة الطيور
الطيورُ مُشردةٌ في السَّموات
ليسَ لها أن تحطَّ على الأرضِ
ليسَ لها غيرَ أن تتقاذفَها فلواتُ الرّياح!
ربما تتنزلُ..
كي تَستريحَ دقائقَ..
فوق النخيلِ – النجيلِ – التماثيلِ –
أعمِدةِ الكهرباء –
حوافِ الشبابيكِ والمشربيَّاتِ
والأَسْطحِ الخرَسانية.
(اهدأ ليلتقطَ القلبُ تنهيدةً والفمُ العذبُ تغريدةً
والقطِ الرزق..)
سُرعانَ ما تتفزّعُ..
من نقلةِ الرِّجْل
من نبلةِ الطّفلِ
من ميلةِ الظلُّ عبرَ الحوائط
من حَصوات الصَّياح!)
***
الطيورُ معلّقةٌ في السموات
ما بين أنسجةِ العَنكبوتِ الفَضائيِّ: للريح
مرشوقةٌ في امتدادِ السِّهام المُضيئةِ
للشمس
(رفرفْ..
فليسَ أمامَك –
والبشرُ المستبيحونَ والمستباحونَ: صاحون –
ليس أمامك غيرُ الفرارْ..
الفرارُ الذي يتجدّد. كُلَّ صباح!)
(2)
والطيورُ التي أقعدتْها مخالَطةُ الناس
مرتْ طمأنينةُ العَيشِ فَوقَ مناسِرِها..
فانتخَتْ
وبأعينِها.. فارتخَتْ
وارتضتْ أن تُقأقَىَء حولَ الطَّعامِ المتاحْ
ما الذي يَتَبقى لهَا.. غيرُ سَكينةِ الذَّبح
غيرُ انتظارِ النهايه.
إن اليدَ الآدميةَ.. واهبةَ القمح
تعرفُ كيفَ تَسنُّ السِّلاح!
(3)
الطيورُ.. الطيورْ
تحتوي الأرضُ جُثمانَها.. في السُّقوطِ الأخيرْ!
والطُّيُورُ التي لا تَطيرْ..
طوتِ الريشَ واستَسلَمتْ
هل تُرى علِمتْ
أن عُمرَ الجنَاحِ قصيرٌ.. قصيرْ?!
الجناحُ حَياة
والجناحُ رَدى.
والجناحُ نجاة.
والجناحُ.. سُدى!
قصيدة العشاء
قصدتهم في موعد العشاء
تطالعوا لي برهة ،
ولم يرد واحد منهم تحية المساء !
……وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة
في طبق الحساء
…….. ……. ………
نظرت في الوعـــاء :
هتفت : (( ويحكم ….دمي
هذا دمي …..فانتبهوا ))
……..لم يــأبهوا !
وظلّت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة وظلت الشفاة تلعق الدماء !
قصيدة العار الذي نتقيه
هذا الذي يجادلون فيه
قولي لهم عن أمّه ، و من أبوه
أنا و أنت .
حين أنجبناه ألقيناه فوق قمم الجبال كي يموت !
لكنّه ما مات
عاد إلينا عنفوان ذكريات
لم نجتريء أن نرفع العيون نحوه
لم نجتريء أن نرفع العيون
نحو عارنا المميت
***
ها طفلنا أمامنا غريب ترشفه العيون و الظنون بازدرائها
و نحن لا نجيب
( و ربّما لو لم يكن من دمنا
كنّا مددنا نحوه اليدا
كنّا تبنّيناه راحمين نبله المهين )
لكنّه .. ما زال يقطع الدروب
يقطع الدروب
و في عيوننا الأسى المريب
***
” أوديب ” عاد باحثا عن اللذين ألقيناه للردى
نحن اللّذان ألقياه للردى
و هذه المرّه لن نضيعه
و لن نتركه يتوه
ناديه
قولي إنّك أمّه التي ضنت عليه بالدفء
و بالبسمة و الحليب
قولي له أنّي أبوه
( هل يقتلني ؟ ) أنا أبوه
ما عاد عارا نتّقيه
العار : أن نموت دون ضمّه
من طفلنا الحبيب
من طفلنا ” أوديب
قصيدة العينان الخضروان
العينان الخضراوان
مروّحتان
في أروقة الصيف الحرّان
أغنيتان مسافرتان
أبحرتا من نايات الرعيان
بعبير حنان
بعزاء من آلهة النور إلى مدن الأحزان
سنتان
و أنا أبني زورق حبّ
يمتد عليه من الشوق شراعان
كي أبحر في العينين الصافيتين إلى جزر المرجان
ما أحلى أن يضطرب الموج فينسدل الجفنان
و أنا أبحث عن مجداف
عن إيمان !
***
في صمت ” الكاتدرائيات ” الوسنان
صور ” للعذراء ” المسبّلة الأجفان
يا من أرضعت الحبّ صلاة الغفران
و تمطي في عينيك المسبّلتين
شباب الحرمان
ردّي جفنيك
لأبصر في عينيك الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبي ؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن الحبّ
عن ذكرى
عن نسيان !
و العينان الخضراوان
مروّحتان !
قصيدة رسالة من الشمال
بعمر – من الشوك – مخشوشن
بعرق من الصيف لم يسكن
بتجويف حبّ ، به كاهن
له زمن .. صامت الأرغن :
أعيش هنا
لا هنا ، إنّني
جهلت بكينونتي مسكني
غدي : عالم ضلّ عنّي الطريق
مسالكه للسدى تنحني
علاماته .. كانثيال الوضوء
على دنس منتن . منتن تفح السواسن سمّ العطور
فأكفر بالعطر و السوسن
و أفصد و همي … لأمتصّه
فيمتصّني الوهم ، يمتصّني ..
***
ملاكي : أنا في شمال الشمال
أعيش .. ككأس بلا مدمن
ترد الذباب انتظارا ، و تحسو
جمود موائدها الخوّن
غريب الحظايا ، بقايا الحكايا
من اللّيل لليل تستلنّي
أرشّ ابتسامتي على كلّ وجه
توسّد في دهنه اللّين
و يجرحني الضوء في كلّ ليل
مرير الخطى ، صامت ، محزن
سربيت به – كالشعاع الضئيل –
إلى حيث لا عابر ينثني
هي اسكندريّة بعد المساء
شتائيّة القلب و المحضن
شوارعها خاويات المدى
سوى : حارس بي لا يعتني
ودودة كلبين كي ينسلا
ورائحة الشّبق المزمن
ملاكي .. ملاكي .. تساءل عنك
اغتراب التفرّد في مسكني
سفحت لك اللّحن عبر المدى
طريقا إلى المبتدأ ردّني
و عيناك : فيروزتان تضيئان
في خاتم الله .. كالأعين
تمدّان لي في المغيب الجناح
مدى ، خلف خلف المدى الممعن
سألتهما في صلاة الغروب
عن الحبّ ، و الموت ، و الممكن
و لم تذكرا لي سوى خلجة
من الهدب قلت لها : هيمني !
هواي له شمس تنهيدة
إلى اليوم بالموت لو تؤمن
و كانت لنا خلوة ، إن غدا
لها الخوف أصبح في مأمن
مقاعدها ما تزال النجوم
تحجّ إلى صمتها المؤمن
حكينا لها ، و قرأنا بها
بصوت على الغيب مستأذن
دنّوا ، دنّوا ففي جعبتي
حكايات حبّ سنى ، سنى
صقلت به الشمس حتّى غدت
مرايا مساء لتزيّني
وصفت لك النجم عقدا من
الماس شعّ على صدرك المفتنى
أردتك قبل وجود الوجود
وجودا لتخليده لم أن
تغرّبت عنك ، لحيث الحياة
مناجم حلم بلا معدن و دورة كلبين ينسلّا
ورائحة الشّبق المزمن
قصيدة لا تصالح
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما – فجأةً – بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ – مبتسمين – لتأنيب أمكما.. وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
قصيدة ماريا
ماريّا ؛ يا ساقية المشرب
اللّيلة عيد
لكنّا نخفي جمرات التنهيد !
صبى النشوة نخبا .. نخبا
صبى حبّا
قد جئنا اللّيلة من أجلك
لنريح العمر المتشرّد خلف الغيب المهلك
في ظلّ الأهداب الإغريقيّة !
ما أحلى استرخاءه حزن في ظلّك
في ظلّ الهدب الأسود
………………. ماذا يا ماريّا ؟
الناس هنا كالناس هنالك في اليونان
بسطاء العيشة ، محبوبون
لا يا ماريّا
الناس هنا – في المدن الكبرى – ساعات
لا تتخلّف
لا تتوقّف
لا تتصرّف
آلات ، آلات ، آلات
كفى يا ماريّا
نحن نريد حديثا نرشف منه النسيان !
……………………..
ماذا يا سيّدة البهجة ؟
العام القادم في بيتي زوجة ؟ !
قد ضاعت يا ماريّا من كنت أودّ
ماتت في حضن آخر
لكن ما فائدة الذكرى
ما جدوى الحزن المقعد
نحن جميعا نحجب ضوء الشمس و نهرب
كفى يا ماريّا
نحن نريد حديثا نرشف منه النسيان
………………
قولي يا ماريّا
أوما كنت زمانا طفلة
يلقي الشعر على جبهتها ظلّه
من أوّل رجل دخل الجنّة واستلقى فوق الشطآن
علقت في جبهته من ليلك خصله
فضّ الثغر بأوّل قبله
أو ما غنّيت لأوّل حبّ
غنّينا يا ماريّا
أغنية من سنوات الحبّ العذب