أبو عامر الراهب هو عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي، من رجال الخزرج، وكان له شرف ورفعة كبيرة بين قومه، أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم اسم أبو عامر الفاسق، تنصر في أيام الجاهلية وادعى الرهبانية، وكان على دراية بعلم أهل الكتاب، كما كان يدعي الورع والزهد، وكان يوجد بالمدينة قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها.

ظهور الدعوة الإسلامية

عندما هاجر الرسول صلوات الله وسلامه عليه، من مكة إلى المدينة المنورة، وأصبح للدين الإسلامي أوتاد صلبة راسخة، وكلمة عالية ومسموعة، وشاهد أبو عامر بعينيه اللعينتين التفاف المسلمين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، اغتاظ هذا المنافق من ذلك غيظ شديد، وحاول بجميع ما أوتي من  قوة التصدي لهذا الدين، وبدء في محاربة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، الذي دعاه إلى الدخول في الإسلام إلا أنه أبى وبشدة، ومن شدة عداوته للرسول وللدين الإسلامي أنه ذهب إلى قبائل قريش ليحضهم ويشجعهم على محاربة المسلمين.

أبو عامر الفاسق يوم أحد

كان يعتقد أن قومه مازالوا يوقرونه كما كان في الماضي، قبل ظهور الدعوة المحمدية، وأنه باستطاعته استمالتهم والتأثير عليهم وجذبهم إليه، وهذا ما أخبر به المشركين، ولكنه أثناء معركة أحد نادى قومه من رجال الأنصار وتعرف إليهم ، ولكنه اندهش مما قالوه له وسبهم إياه، حيث ردوا عليه قائلين، لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، فما كان منه إلا أن قال بنبرة يملأها الحسرة: لقد أصاب قومي بعدي شر.

وقد زاد من جرمه وفسقه أن قام يوم أحد بحفر حفائر بين الصفين، فوقع النبي صلى الله عليه وسلم، في واحدة منهن، فتسببت ذلك السقوط في إصابة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث شج رأسه الشريف، وجرح وجهه الكريم، وكسرت رباعيته، بسبب هذا الفعل الدنيء الذي قام به هذا الفاسق، ولكنه رغم فعله الشنيع هذا لم يستطيع كسر شوكة المسلمين، فاشتد غيظه وجعل يبحث عن خطة أخرى يستطيع من خلالها الوصول إلى هدفه المستحيل.

مسجد ضرار

بعد علم أبو عامر الراهب بصعوبة كسر شوكة المسلمين، قرر الذهاب إلى هرقل ملك الروم طالبًا منه العون ليستطيع هزيمة المسلمين، وما كان من ملك الروم إلا أن أكرمه ووعده بمناصرته وتنفيذ طلبه، كما أنه قد استضافه عنده، فرح أبو عامر بذلك كثير وبعث إلى المنافقين من أهل المدينة ليخبرهم، بما وعده به ملك الروم، وأنه سوف يعود ومعه جيش كبير سوف يقوم بهزيمة جيش المسلمين والتغلب عليهم، وقد اتفق معهم على بناء مقر خاص به يستطيع من خلاله ممارسة أفعاله الشيطانية دون أن يشك به المسلمين.

ففكروا في إقامة مكان يكون أكثر ستر وخدعة حتى لا يفتضح أمرهم، فما كان منهم إلا أن قاموا ببناء مسجد مدعيين أنه من أجل مساعدة العجزة والمرضى، وكان هذا المسجد بجانب مسجد قباء، ثم ذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طالبين منه قبل ذهابه إلى غزوة تبوك، أن يقوم بالصلاة داخل مسجدهم المزعوم، ولكنه أخبرهم بأنه مسافر وعند عودته من سفره سوف يقوم بالصلاة داخله.

كشف حيلة أبو عامر الفاسق ودعوة الرسول عليه

وبالفعل سافر النبي صل الله عليه وسلم إلى الغزوة وقبل عودته إلى المدينة بحوالي يوم أو بعض يوم، أخبره ربه عز وجل عن مكيدة هؤلاء عن طريق الوحي، واعلمه بهدفهم الحقيقي من وراء بناء هذا المسجد، فأنزل عليه الآية الكريمة: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [سورة التوبة: 107-108]

وبهذا افتضح أمر أبو عامر الراهب وأعوانه، وحفظ الله الرسول وصحابته من كيد أعداء الإسلام، وقد ذكر ابن هشام في سيرته أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر عمار بن ياسر ، و مالك بن الدخشم مع بعض أصحابه وقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه» ففعلوا وقد روى الحاكم أن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ كان يقول: ” رأيت الدخان من مسجد ضرار حين انهار”، وقد استجاب الله ـ عز وجل ـ لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي عامر ذلك المنافق، أن يموت بعيدًا طريدًا، فمات بالشام وحيداً غريباً .